Author

هل نثق بالمصادر مجهولة الهوية وغير الموثقة؟

|
أستاذ جامعي ـ السويد
سأختتم سلسلة المقالات حول الخطاب الإعلامي هذا الأسبوع، وذلك بتسليط الضوء على المصادر المجهولة الهوية، التي لا يمكن التحقق من صدقيتها. والغاية من هذه السلسلة كانت تنوير المتلقي "القارئ والسامع والمشاهد" كي يحكم بنفسه إن كان في الإمكان الوثوق بالمصادر التي ينقل عنها الصحافيون. والنقل، أي الاتكاء على إسناد كل معلومة نحصل عليها، لا سيما عند كتابتنا للأخبار، هو جوهر الكتابة لوسائل الإعلام. والنقل في الوقت نفسه أيضا، يعد مرتعا للتلاعب بالمصادر التي نستند إليها والاقتباسات التي نحصل عليها. أن نكتب أفكارنا ونعرض وجهات نظرنا من خلال لغة مثبتة أو منفية أو استفهامية تقريرية المنحى، فهذا لعمري لا ضرر فيه، لأننا من خلال ذلك نعبر عن ذاتيتنا ومكنونات أنفسنا. بيد أن نكتب الأفكار ووجهات النظر، وذلك بتحويل اللغة التقريرية المثبتة إلى لغة القول، فهذا لعمري يعد انتهاكا لأبسط معايير المصداقية والأمانة والدقة والنزاهة والوفاء والاستقامة. وما "لغة القول" يا ترى؟ لغة القول تتألف من كل خطاب نسنده إلى الآخرين. والإسناد لغة يحتاج إلى فعل القول ومصدر القول، ولا يصح أي إسناد دونهما. ولا يجوز الاعتداد بأي اقتباس إن لم يكن له من يسنده من فعل القول ومصدر القول. وهل هناك في الخطاب الإعلامي اقتباس دون إسناد؟ الجواب، كلا. إذن، أين المشكلة؟ المشكلة تكمن في طريقة الإسناد. وقبل أن أعرض كيف ومتى يخدعنا الخطاب الإعلامي عند نقله الأحداث لنا، أعود بالقارئ الكريم إلى عهد الرسالة. تعرف العرب على الإسناد الصحيح في مرحلة تدوين القرآن الكريم والحديث الشريف. مكانة وقدسية النصوص لديهم جعلتهم يستنبطون طرائق في الإسناد والاقتباس لم تكن متوافرة لدى الأمم الأخرى بقدر تعلق الأمر بالمصداقية والنزاهة والأمانة. قد أعرج على الأساليب التي اتبعها العرب في حينه، ولكن ما يميز هذه المرحلة هو المحاولة الحثيثة للتحقق من أن كل اقتباس له ما يسنده من مصدر موثوق وأمين لا شائبة فيه وإلا فإنه يهمل. والتوثيق والأمانة كانتا الحكم. ومن شروطهما رفض تدوين أي اقتباس من أي مصدر غير معرف أو مجهول الهوية أو إسناد قول إلى مجموعة من مصادر من المستحيل معرفة من هي وماهيتها. ومن الكتاب في صدر الإسلام من أضاف شرطا آخر وهو، أن الاقتباس يجب أن يكون له مصدران موثقان صحيحان قبل إدراجه. وأظن أنهم بهذا سبقوا زمانهم وقدموا لنا درسا في المصداقية والنزاهة والموضوعية. وعندما كنت أعمل مراسلا لوكالة أسوشييتد برس الأمريكية، كان هذا شرطا أساسا للاقتباس. بمعنى آخر، أي تغطية لأي مسألة أو حدث كان يجب أن يكون لها مصدران على الأقل. أما المصادر غير المعرفة ومجهولة الهوية أو النقل من مصادر متعددة في آن واحد، فهذا كان من المحرمات، قبل نحو ربع قرن. الأمور يبدو أنها قد تغيرت الآن. في خضم العولمة والثورة الرقمية، طرأت زيادة مهولة في المادة الإعلامية. نظريا، لا حدود لسعة الإنترنت، بينما سعة الصحافة الورقية محددة جدا في المقابل. بزوغ الثورة الرقمية جعلت تقريبا من أي جريدة بمنزلة وكالة إخبارية لا تكل ولا تمل من نقل الأخبار ليل نهار. وازداد الطلب على المصادر، وبرزت ظاهرة المصادر المتعددة وغير المعرفة بشكل لم نألفه في السابق. وصرنا أمام خطاب أصبح من الصعوبة بمكان التحقق من مصداقيته. وهكذا، نقرأ ونسمع أطرا خطابية خاصة بالإسناد الحديث، تقتبس من مصادر من المستحيل أحيانا التحقق منها تعريفا وجغرافية ومكانة. وأحيانا يتم تنسيب المعلومة من خلال اقتباس مباشر إلى مصادر عديدة في آن واحد، وهذا خطأ لا يغتفر، حسب علم تحليل الخطاب. وبدلا من أن يضع الإعلام التعامل مع المصادر التي لا يمكن التحقق من مصداقيتها جانبا، لجأت وسائل التواصل، ومعها القنوات الرئيسة، إلى استخدام أطر خطابية بإمكاني وصفها بأنها غريبة وعجيبة. وهذه الأطر دخيلة على اللغة العربية جرت استعارتها من اللغات الأجنبية، لا سيما الإنجليزية، فيها تحذر الوسيلة الإعلامية أن المعلومة المقتبسة لا يمكن التحقق من مصداقيتها، لأن المصادر مشكوك في أمانتها. وهكذا نقرأ اليوم في العربية أطرا خطابية مثل، "من المستحيل التحقق من صحة التقرير، ولم يتسن لنا التحقق من صدقية التقرير، التقرير لا يمكن التحقق منه بصورة مستقلة، لم يتسن لنا التحقق من مصدر التقرير، من الصعوبة التحقق من صدقية الفيديو وأعداد القتلى ... إلخ". وهكذا، صار عدد التقارير والأخبار التي ليس بإمكان الإعلام التحقق من مصداقيتها، ربما أكثر من التقارير والأخبار التي تصلنا بعد أن تمكن الإعلام من التحقق منها.
إنشرها