FINANCIAL TIMES

الأسواق تكافح لرؤية أدلة على الأرباح الأمريكية

الأسواق تكافح لرؤية أدلة على الأرباح الأمريكية

في نهاية هذا الأسبوع تم تذكيري بواحدة من أكثر النظريات غير المقنعة التي وردت في عالم الفلسفة حتى الآن. هناك سؤال قديم يربك الفلاسفة والمستثمرين في آن معا: ما الرابط بين الأشياء التي ندركها بحواسنا والجوهر الكامن وراء ما ندركه؟ نعلم أن حواسنا لا يمكن الاعتماد عليها في جميع الأحوال، فما الذي يحدث فعلا؟
جون لوك، الفيلسوف البريطاني الذي شكلت أفكاره وقودا للثورة الأمريكية، لديه نظرية للمعرفة والإدراك، أجدها دائما مزعجة. تساءل لوك عما إذا كانت لدينا فكرة عن الجوهر الكامن وراء ما ندركه بحواسنا. قال: "ليست لدينا مثل هذه الفكرة الواضحة على الإطلاق، وبالتالي كلمة جوهر لا تدل على شيء، فقط افتراض غير مؤكد حول ما لا نعرفه".
فحتى ولو قضينا حياتنا نتفاعل مع العالم الخارجي بنجاح، فإننا في نهاية الأمر نتفاعل مع "شيء لا ندرك كنهه".
تواصل النقاش الفلسفي عبر القرون منذ أن طرح لوك فكرته هذه. لكن الفكرة جسدت تماما الوضع غير المستقر في أسواق المال العالمية. فعلى المدى القصير هذه الأسواق مدفوعة بما ندركه بحواسنا، وليس بالواقع. فلو كان لدى كثير من المتعاملين في السوق انطباع خاطئ، ستتحرك السوق بناء على ذلك. لكن على المدى الطويل السوق تتحرك اعتمادا على المسائل الجوهرية. وفي الوقت الحالي الجوهر الاقتصادي "شيء لا ندرك كنهه".
الغموض ليس بالأمر الجديد، خاصة فيما يتعلق بالأمور المستقبلية. لكن من النادر أن يصعب إدراك الحاضر كما هو. وبعد عقد من الإجراءات النقدية اليائسة الرامية لتفادي الكساد الكبير، هناك أيضا إحجام عن تصديق ما تقوله لنا الأسواق، لأن الإشارات التي ترسلها مشوهة.
في ظاهر الأمر كانت أرباح الربع الأول التي أعلنتها الشركات رائعة وتفوقت على أكثر التوقعات تفاؤلا. ووفقا لـ "طومسون رويترز"، شركات مؤشر S&P 500 في الولايات المتحدة في سبيلها إلى تحقيق زيادة سنوية جيدة بشكل كبير تبلغ 24.6 في المائة. وقبل شهر كان السماسرة يستعدون لزيادة بنسبة 18.5 في المائة.
التخفيضات الضريبية التي تمت العام الماضي، التي بدأ سريانها في الربع الأول، تفسر بعضا من الأمر، لكن الأرباح تجاوزت كل تفسير. كيف تتعايش هذه الصورة مع صورة أوروبا (عدد أقل من الشركات قدمت تقاريرها حتى الآن) حيث مؤشر ستوكس 500 في سبيله إلى الارتفاع بنسبة 0.7 في المائة فقط (انخفاض صريح باستثناء شركات الطاقة). ومعظم الشركات التي قدمت تقاريرها نجحت في تجاوز التوقعات.
الأرباح هي ما نشتريه عندما نشتري الأسهم. فهي "الشيء الذي لا ندرك كنهه"، الكامن وراء أسواق الأسهم. فكيف تفوقت أسواق الأسهم الأوروبية على أسواق الأسهم في الولايات المتحدة هذا الشهر؟ وكيف يمكن للأسهم في الولايات المتحدة أن تنخفض هذا السنة؟ إما أن المستثمرين الأمريكيين جشعون على نحو لا يصدق وإما أنهم لا يصدقون الأرقام.
لدينا أيضا السندات. عائد سندات الخزينة لعشر سنوات ظل في اتجاه هبوطي مضى عليه 35 عاما، عاكسا بذلك اعتقادا يفيد بهزيمة التضخم. وقبل ثلاثة أشهر بدا أخيرا أن عائد سندات العشر سنوات كسر هذا الاتجاه. وفي الأسبوع الماضي تجاوز العائد 3 في المائة ـ رقم صحيح مهم ـ للمرة الأولى خلال أربع سنوات,
لكن هل صحيح أن التضخم المرتفع والنمو موجودان فعلا الآن؟ الجواب لا، إذا ألقينا نظرة على مقاييس أخرى في سوق السندات نفسها. عائد سندات الـ 30 عاما، الأكثر حساسية للتوقعات بعيدة المدى، أقل بكثير من المستوى الذي كان عليه قبل أربع سنوات. ولا يزال الفرق بين العائد الاسمي الثابت والعائد الحقيقي المرتبط بالتضخم يشير إلى أن التضخم لن يصل إلى مستوى 2.2 في المائة خلال السنوات العشر المقبلة – ليست هناك مشكلة عندما يكون هدف الاحتياطي الفيدرالي 2 في المائة. لا يزال منحنى العائد، أو الفجوة بين العائدات طويلة وقصيرة المدى، ثابتا إلى حد بعيد، وهذا عادة ما يكون علامة على أن نموا ضعيفا في طريقه إلينا.
ما الذي يعكسه الواقع الاقتصادي؟ وفقا لأرقام الأسبوع الماضي، التضخم الأساسي (الذي يستثني الوقود والأغذية) استقر عند 1.66 في المائة في الولايات المتحدة - ليس هناك ما يدعو للقلق. وتوقعات المستهلكين، كما جمعتها جامعة ميشيجان في استطلاع موثوق، منخفضة وستستمر في الانخفاض.
وتسجيل نمو اقتصادي بمعدل سنوي بلغ 2.3 في المائة، كان جيدا وأفضل من الربعين الأولين السابقين، على الرغم من شتاء أمريكا الشمالية السيئ. ومؤشر تكلفة التوظيف آخذ في الارتفاع وهو الآن في مستوى 2.7 في المائة ـ أسرع معدلاته منذ أزمة 2008. ومن المفترض أن ترفع مثل هذه التكاليف التضخم، أو تنتقص من أرباح الشركات، أو كليهما.
وتبين مؤشرات "المفاجآت" ـ التي تقيس إلى أي مدى تتجاوز البيانات الاقتصادية التوقعات، أو إلى أي مدى كانت مخيبة للآمال ـ أن الولايات المتحدة لا تزال تحتفظ بمفاجأة سارة للمتنبئين، بينما كانت منطقة اليورو مخيبة للآمال بشكل كبير في الآونة الأخيرة، وذلك على نحو غير معهود منذ الأزمة.
ويمكن لأي شخص منطقي ونزيه أن يجادل بأن الأسواق تستعد لحالات من التحسن أو الانحدار (ومع كون الأسهم الأمريكية دون أعلى مستوياتها على الإطلاق تقريبا، تكون سوق الأسهم في وضع يسمح بحدوث تراجع حاد) وبأن الضغط التضخمي عاد بقوة، أو أنه تحت السيطرة. فالاقتصاد هو "شيء لا ندرك كنهه" ولا يمكننا تصوره.
لكن هذا، كما يرى لوك، ليس بالوضع الطبيعي. بعد عشر سنوات من السياسة النقدية الاستثنائية، بات الإيمان بالأدلة المعتمدة على حواسنا يواجه تحديا. لن تحدد الأسواق اتجاها واضحا حتى يصبح التضخم، على وجه الخصوص، أكثر وضوحا وأكثر قابلية للمعرفة.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES