FINANCIAL TIMES

العيش خارج الكوكب .. هل يصبح القمر شيكاغو الاقتصاد الفضائي؟

العيش خارج الكوكب .. هل يصبح القمر شيكاغو الاقتصاد الفضائي؟

يبدأ ميشيو كاكو كتابه "مستقبل الإنسانية" بتوقع بهيج مفاده أننا جميعاً سنموت. ربما كلنا نعرف أن ذلك صحيح على المستوى الفردي، لكنه يقول إن ذلك أيضاً صحيح على المستوى الجماعي.
يرى أستاذ الفيزياء في سيتي يونيفيرسيتي في نيويورك: "أنه أمر لا مفر منه، مثلما لا مفر من قوانين الفيزياء، أن البشرية ستواجه يوما ما نوعا معينا من الحوادث التي على مستوى الانقراض". أكثر من 99.9 في المائة من أشكال الحياة التي وجدت على الأرض انقرضت من قبل. "الانقراض هو الأمر الطبيعي على الأرض".
بطريقة أو بأخرى، سواء كان ذلك شتاء نوويا، أو وباء مدمرا، أو كارثة بيئية شاملة، أو بركانا هائلا، أو نيزكا يضرب الأرض، من المرجح أن يتم القضاء علينا جميعا. وإذا ما تمكنا بمعجزة من البقاء على قيد الحياة، على الرغم من كل هذه الكوارث، فلا محالة أننا إلى زوال يوما ما.
لكن كاكو يخبرنا في هذا الكتاب أن الأمور لن يكون مصيرها الضياع تماما، وكتابه يزودنا بدليل نشط على بقاء جنس البشر. وخلافاً لكل أشكال الحياة الأخرى على الأرض نحن، كما يقول، مسيطرون إلى حد ما على مصيرنا. ويصف خيارنا بعبارات بسيطة: "إما أن نترك الأرض، أو نموت"، أو كما عبر عن ذلك كاتب الخيال العلمي لاري نيفين: "الديناصورات انقرضت لأنها لم تكن تمتلك برنامجا للفضاء".
يشتمل كتاب "مستقبل الإنسانية" على تاريخ مرتب لاستكشاف الفضاء ودليل أخاذ للطريقة التي يمكن أن تتطور بها "مغامرتنا الكبرى" في العقود المقبلة. وخلال ذلك يذهب كاكو عدة جولات في "تحويلة" معبرة وقوية تبحث في احتمالات جعل كوكب المريخ مثل الأرض، وفي الطبيعة المحتملة للحياة خارج الأرض، وكذلك في إمكانية تحميل وعينا على كمبيوتر ثم قذف أنفسنا في رحلة ملحمية خارج مجموعتنا الشمسية. أنا أنتظر أدلة السفر لمثل هذه الرحلات.
يشير كاكو أيضاً إلى بعض الفرص الكبيرة في مجال الفضاء. إحدى الإمكانات المثيرة هي استغلال الكويكبات، أو ما يمكن تسميتها "منجم الذهب الطائر في الفضاء الخارجي"، الغنية بالمعادن الثمينة والمعادن النادرة. وهو يتخيل مستقبلاً يمكن أن يكون فيه القمر شيكاغو الاقتصاد الفضائي، بحيث يصبح قادراً على معالجة المعادن الثمينة الآتية من حزام النيازك وشحنها إلى الأرض.
كثير من هذه الأفكار التي تبدو اليوم مغرقة في الخيال، ربما تصبح عادية غدا. وحسب القول السائر، التكنولوجيا تحول ما هو سحري ليصبح عاديا.
يقول كاكو إن إحدى "تحويلاته" المفضلة هي مفهوم المصاعد الفضائية - التي كان أول من اقترحها هو الفيزيائي الروسي في القرن الـ 19، كونستاتين تسيولكوفسكي – التي من شأنها نقل حمولات هائلة إلى الفضاء الخارجي. وحين سئل الكاتب آرثر سي كلاك متى ستكون تلك المصاعد ممكنة، أجاب: "على الأغلب بعد 50 سنة من توقف كل واحد منا عن الضحك من ذلك".
لم يعد أحد يسخر من ذلك الآن. ففي عام 2013 قدمت أكاديمية علوم الفضاء الدولية تقريراً من 350 صفحة تقول فيه إن من الممكن بالتأكيد تحقيق المصعد الفضائي عن طريق ما يكفي من البحوث والتمويل. ورسم التقرير إمكانية بناء كابل عرضه نحو 90 سنتمترا وطوله 48 ألف كيلو متر، يمكن بواسطته نقل حمولات متعددة إلى الفضاء يبلغ وزن الواحدة منها 20 طنا بحلول عام 2035، الأمر الذي يشكل بنية تحتية للاستكشاف العميق للفضاء.
إلى جانب شرحه، بلغة واضحة، المفاهيم المعقدة للفيزياء النظرية وعلم الكون، يوضح كاكو أفكاره من خلال إشارات متكررة إلى روايات الخيال العلمي، من حلقات مسلسل "حرب النجوم" إلى أفلام تيرمنيتر، إلى "المسألة الأخيرة" التي كتبها إسحاق عظيموف.
سيكون من الصعب على القارئ في بعض الأحيان التمييز بين النقطة التي تذوب فيها الحقائق العلمية لتصبح من الخيال العلمي. لكن، كما يشرح كاكو، هذه هي طبيعة الزمن الذي نعيش فيه. ويقول إن الموجة الرابعة من العلم، المكونة من تكنولوجيا النانو والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية، تنطوي على الوعد بتطورات كبيرة ستكون لها عواقب هائلة على استكشاف الفضاء، وعلى أشياء كثيرة أخرى. وعلى الرغم من الحماسة الجامحة التي يبديها كاكو للسفر في الفضاء، إلا أنه يتحدث بلغة موثوقة في محاولته رسم الحدود التي تنتهي عندها المعرفة الحالية ومتى يبدأ عالم التكهنات.
أحد الأسباب التي تجعل كاكو متحمساً بشأن بزوع فجر عصر ذهبي جديد للسفر في الفضاء، هو ظهور جيل جديد من أصحاب المشاريع من ذوي الثراء الضخم في مجال غزو الفضاء، أبرزهم إيلون ماسك وجيف بيزوس، الذين تحفزهم الرغبة في الرحلات الكونية.
ويجري تفحُّص إنجازات وطموحات هؤلاء من قرب وبتفاصيل طريفة، في كتاب "بارونات الفضاء" من تأليف كريستيان دافينبورت، وهو مراسل سابق مخضرم لصحيفة "واشنطن بوست". ويشكل كتابه دراسة لأوجه التقابل بين هذين المليارديرين صاحبي المشاريع. أولهما ماسك مؤسس شركة سبيس إكس، المتحمس المليء بالنشاط، وسريع الحركة، الباحث عن الشهرة والمصمم على إنجاز كل شيء اليوم، إن لم يكن أمس. والثاني بيزوس، مؤسس شركة بلو أوريجن، المهندس الحذر الكتوم والمنهجي الذي اتخذ السلحفاة لتكون الرمز جالب الحظ لشركته، ويعيش بحسب شعار قوات الصاعقة في البحرية: "البطء يتمثل في النعومة، والنعومة تجلب السرعة".
تماما مثلما أن سباق الفضاء الأول كان مدفوعا بالمنافسة بين القوتين العظميين، الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، كذلك فإن المنافسة الشخصية بين ماسك وبيزوس تؤدي إلى دورة جديدة محمومة من الاستثمار والابتكار. يقول دافينبورت إن المنافسة هي أفضل وقود لصواريخ استكشاف الفضاء.
في البداية استخف معظم مؤسسة الفضاء الأمريكية بالرجلين واعتبروهما من الهواة غريبي الأطوار. لكن المؤلف يقول إنهما استطاعا استمالة خبراء الفضاء من خلال تحقيق بعض الإنجازات المثيرة، خاصة في تطوير صواريخ أقل تكلفة ويمكن إعادة استعمالها، الأمر الذي يحدث ثورة في اقتصاديات السفر في الفضاء.
لكن صاحبي المشاريع يركزان على أهداف بعيدة المدى مختلفة تماما عن بعضهما بعضا. بالنسبة لماسك الهدف هو استعمار كوكب المريخ، وهو الذي يعترف بأنه الكوكب الذي يجب إصلاحه أولاً. ويرى ماسك أن المريخ هو بيت بديل للبشر في حال ضرب أحد النيازك كوكب الأرض. ويُنقل عنه قوله المشهور إنه يريد في النهاية الموت على كوكب المريخ وليس من ضربة تصيب الأرض.
أما بالنسبة إلى بيزوس، فإن خطته المفضلة هي الحفاظ على الأرض واعتبار ذلك الخطة الأولى للبشرية، وضمان بقائها صالحة للعيش لآلاف السنين. وطموحه النهائي هو جعل السفر في الفضاء شيئا روتينيا، ونقل الصناعات القذرة إلى خارج الأرض، لتبقى "منطقة خاضعة للتنظيم العمراني ومقتصرة على السكن والصناعات الخفيفة". على الرغم من إنجازاتهما المثيرة للإعجاب، فإن غرور الرجلين يجعل كثيرا من القراء يشعرون بأنه غرور هائل، إذ يظل السفر عبر الفضاء مجهودا خطِرا ولا يمكن التنبؤ به. والكتاب مفيد كونه تذكرة بأن توقعات الناس يمكن أحيانا أن تسبق الواقع بكثير.
في عام 1960 حاولت شركة الطيران "بان أم" أن تستغل الاهتمام الهائل ببرنامج أبولو للفضاء من خلال فتح قائمة انتظار لنقل المسافرين إلى القمر، رغم أن شركة الطيران اعترفت بأن "تاريخ بدء الخدمة ليس معروفا حتى الآن". وبحلول عام 1971، حين توقفت الشركة عن قبول الحجوزات، كان قد اشترك في البرنامج 90 ألف مسافر، بمن فيهم رونالد ريجان ووالتر كرونكايت. لكن الشركة انهارت في عام 1992، قبل فترة طويلة للغاية من أن تتوافر لها أصلا فرصة لإطلاق مسافر واحد إلى الفضاء.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES