default Author

الاقتصاد العالمي والتوترات التجارية «2 من 2»

|
احتمالات القيود التجارية والقيود المضادة لها تهدد بتقويض الثقة وإخراج النمو العالمي مبكرا عن مساره الصحيح. وفي حين أن بعض الحكومات عاكفة على إجراء إصلاحات اقتصادية كبيرة، نجد أن مخاطر النزاعات التجارية بدأت تحول مسار البعض الآخر بعيدا عن الخطوات البناءة التي ينبغي اتخاذها الآن لتحسين آفاق النمو وتأمينها. إن مغازلة الاقتصادات الكبرى لفكرة الحرب التجارية قد تبدو من قبيل المفارقة في فترة تتميز باتساع نطاق النمو الاقتصادي ــ خاصة لأن هذا النمو يعتمد كثيرا على الاستثمار والتجارة. غير أن التفاؤل الشعبي إزاء مزايا الاندماج الاقتصادي قد تراجع مع الوقت، خاصة في الاقتصادات المتقدمة، بسبب انتشار استقطاب الوظائف والأجور منذ وقت طويل، مع استمرار نمو الأجور الوسيطة بمعدل دون المتوسط. ومن ثم كانت الاستفادة من النمو ضئيلة أو معدومة بالنسبة لكثير من الأسر. وترجع هذه الاتجاهات العامة إلى تغير التكنولوجيا أكثر مما ترجع إلى التجارة، وقد انتشر التشكك العام في قدرة صناع السياسات على توليد نمو قوي واحتوائي، حتى في البلدان التي لا تبرز فيها ردة الفعل المعادية للتجارة. ويثير شعور الناخبين بخيبة الأمل خطر التطورات السياسية التي يمكن أن تهدد مجموعة من السياسات في المستقبل، وليس السياسة التجارية فقط. وينبغي أن ترتفع الحكومات إلى مستوى التحديات التي تفرضها الحاجة إلى تعزيز النمو، ونشر منافعه على نطاق أوسع، والتوسع في إتاحة الفرصة الاقتصادية عن طريق الاستثمار في البشر، وزيادة شعور العمالة بالأمان في مواجهة التغيرات التكنولوجية الوشيكة التي يمكن أن تحدث تحولا جذريا في طبيعة العمل. ويؤدي الاحتراب التجاري إلى صرف الانتباه عن هذه البنود الأساسية على جدول الأعمال، بدلا من الدفع للتقدم فيها. وقد بدأ تصاعد التوترات التجارية أعلنت الولايات المتحدة أنها تعتزم فرض رسوم جمركية على واردات الحديد الصلب والألمنيوم لأسباب تتعلق بالأمن القومي. ووجدت هذه التصريحات طريقها إلى عدة مفاوضات ثنائية تهدف إلى تخفيض العجز التجاري للولايات المتحدة مقابل شركاء تجاريين منفردين. غير أن هذه المبادرات ليست لها تأثير يذكر في تغيير العجز متعدد الأطراف أو الكلي في الحساب الجاري الخارجي للولايات المتحدة، الذي يرجع في معظمه إلى مستوى الإنفاق الكلي الذي لا يزال يتجاوز مجموع الدخل. والواقع أن إجراءات المالية العامة التي اتخذتها الولايات المتحدة أخيرا ستؤدي إلى زيادة العجز في حسابها الجاري. ومقارنة بتوقعاتنا في تشرين الأول (أكتوبر) 2017، التي جاءت قبل التغييرات التي أجرتها الولايات المتحدة أخيرا في الضرائب والإنفاق، نتوقع الآن أن يرتفع عجز الحساب الجاري الأمريكي في 2019 بنحو 150 مليار دولار. ويمكن أن يكون لاختلالات الحساب الجاري دور اقتصادي أساسي، ولكنها قد تجلب مخاطر إذا بلغت مستويات مفرطة، بما في ذلك مخاطر نشوب النزاعات التجارية. وفي البيئة العالمية الحالية، ينبغي اقتسام عبء تخفيض الاختلالات العالمية المفرطة عن طريق العمل متعدد الأطراف ــ فالبلدان ذات العجز المفرط ومثلها البلدان ذات الفائض المفرط ينبغي أن تعتمد سياسات اقتصادية كلية تجعل مستويات إنفاقها أكثر اتساقا مع مستويات دخلها. ولكن حتى إذا لم تكن هناك اختلالات عالمية مفرطة، فإن التصدي للممارسات التجارية غير المنصفة، بما فيها قضايا الملكية الفكرية، يتطلب تسوية النزاعات بصورة عادلة وموثوقة ضمن إطار قوي متعدد الأطراف يقوم على قواعد ثابتة. وهناك مجال لتعزيز النظام الحالي بدلا من المجازفة بتفتيت التجارة الدولية لمصلحة العلاقات التجارية الثنائية. وإذا كانت الترتيبات محدودة الأطراف متسقة مع القواعد متعددة الأطراف، يمكن أن تكون نقطة انطلاق مفيدة لمزيد من التجارة المفتوحة. ومن المبشر في هذا الصدد عقد "الاتفاقية التقدمية والشاملة للشراكة عبر المحيط الهادئ" التي توصل إليها 11 بلدا عضوا، وإطلاق "منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية" التي تضم 44 بلدا. ويمكن لكل حكومة وطنية أن تفعل الكثير بمفردها لتشجيع نمو أكثر قوة وصلابة واحتواء للجميع. غير أن التعاون متعدد الأطراف يظل ضروريا لمعالجة مجموعة من التحديات، إضافة إلى حوكمة التجارة العالمية. وتشمل هذه التحديات تغير المناخ، والأمراض المعدية، والأمن الإلكتروني، وضرائب الشركات، والسيطرة على الفساد ــ إلى جانب تحديات أخرى. ولا يمكن للاعتماد المتبادل العالمي إلا أن يواصل النمو، وما لم تتصد له البلدان بروح التعاون، لا الصراع، فلن يتمكن الاقتصاد العالمي من تحقيق الرخاء.
إنشرها