FINANCIAL TIMES

العراق .. طي صفحة «داعش» يصطدم بالرغبة في الانتقام

العراق .. طي صفحة «داعش» يصطدم بالرغبة في الانتقام

ما زالت الحواجز الترابية والأراضي المحرمة، المتفحمة، تفصل بين عائلات السنة والشيعة في يثرب حتى بعد مضي ثلاث سنوات من عملية مصالحة هدفها تضميد جراح مجتمع مزقته الحرب مع "داعش". ويخطط مسؤولون لفصل الطرق وقنوات الري، وحتى إنهم يمارسون الضغوط من أجل تقسيم إدارة المنطقة الزراعية النائية إلى قسمين.
على الرغم من أن الصراع المرير لطرد "داعش" من الأراضي العراقية قد تم الفوز به إلى حد كبير، إلا أن قصة يثرب تبين مدى الصعوبة التي يمكن أن تواجهها عملية المصالحة. يثرب ليست مدينة كبيرة، كالموصل أو الرمادي، حيث هدمت مساحات شاسعة من المناطق الحضرية بسبب معارك دامت شهورا. حتى إنها ليست إحدى المناطق التي ذات التركيبة السكانية المعقدة ما يستوجب المصالحة بين مكوناتها. ومع ذلك لا تزال ملايين الدولارات تنفق لتحقيق السلام في هذه المنطقة.
عشرات المسؤولين العراقيين، والوسطاء، والمنظمات التابعة للأمم المتحدة، وحتى عناصر الميليشيات المحلية ظلوا لسنوات في جولات مكوكية بين قبائل يثرب المنقسمة. لكن المزارعين، مثل قاسم السعدي، لا يزالون مترددين بين سلام قيل لهم إنهم يجب أن يقبلوا به وبين رغبة مزعجة في الانتقام جيران يعتقدون أنهم احتضنوا "داعش" عندما اقتحمت الجماعة المتطرفة أراضيهم.
يقول السعدي وهو يتفحص أنقاض منزل عائلته وحقله المملوء بأشجار النخيل المحروقة: "الحكومة وشيوخنا يريدون منا تقبل عودة هؤلاء الناس مرة أخرى، وهذه هي مهمتهم. لكن لو كان باستطاعتي أن أعرف من الذي أحرق منزلنا، وقتل أبناء عمومتنا، وأشقاءنا – لشربت من دمه".
وقد يكون تضميد جراح المجتمع العراقي المحطم بسبب آلاف القتلى والدمار الشنيع الذي حل به هو أحد أصعب التحديات التي تواجه العراق عندما تتولى الحكومة المقبلة السلطة بعد الانتخابات في أيار (مايو) المقبل. المصالحة أمر في غاية الأهمية لضمان عودة بعض من 2.2 مليون عراقي شردهم النزاع، بمن فيهم آلاف من الذين تجمعهم روابط عائلية مع المسلحين.
لكن في يثرب، كما في أي مكان آخر، يحاول السكان المحليون في كثير من الأحيان منع عودة العائلات التي لها صلة بالمسلحين.
هيئات المساعدة والقوى الغربية جميعها تعترف بأهمية القضاء على الانقسامات التي يعانيها العراق، لكن عددا قليلا منها يبدو مستعدا للتنسيق مع بغداد لحل تلك المشكلة. فهي تشعر بالقلق من أن بعض الأساليب التي تنتهجها الحكومة - مثل احتجاز من يشتبه بأنهم أقرباء لعناصر "داعش" داخل مخيمات للنازحين، في حين يتم إجبار عائلات أخرى على العودة إلى منازلها قبل الشعور بأنها في أمان - تشكل انتهاكا للقانون الدولي، وتعتبر وصفة أخرى للتطرف.
وهذا يلقي كثيرا من العبء على جماعات المجتمع المدني، والقبائل، والسياسيين من ذوي المصالح المتنافسة. يقول أحد الدبلوماسيين: "هذا أمر ملح". ويضيف: "مشاهدة الجماعات وهي تحاول المساعدة تجعلك تشعر وكأنك تشاهد أشخاصا يعيدون ترتيب الكراسي على سطح التايتانيك".
إحدى أكثر القضايا التي تعرقل عملية المصالحة في يثرب هي أنها مكونة من الشيعة وهم الطائفة الأكثرية والمسيطرة في العراق، والطائفة السنية التي تمثل الأقلية، والتي نشأ منها "داعش". معظم مجتمعات يثرب ينتمون إلى القبيلة نفسها، إلا أن السكان المحليين يعارضون ذلك مما يجعل عملية المصالحة أكثر صعوبة.
يقول حارث خلف، رئيس منطقة يثرب: "حل مشكلة داخل قبيلة أصعب بكثير من حل مشكلة بين قبيلتين". ويضيف: "ألا يساورك شعور مختلف عندما يهاجمك ابن عمك، مقارنة بشخص غريب من الشارع؟".
عندما اجتاح تنظيم داعش العراق في عام 2014، في البداية تعاهدت عشائر يثرب التي تعايشت على مدى عقود على المقاومة. لكن سرعان ما تم اجتياح المناطق السنية بعدما انضم متعاونون محليون إلى الميليشيات وفرضوا حصارا على المناطق الشيعية. وفي غضون أشهر، ساعدت ميليشيات شيعية سكان يثرب من الشيعة في إخراج "داعش"، إلى جانب نحو 60 ألفا من السنة الذين تحملوا، طوعا أو كرها، حكم المتطرفين.
ويرجع السكان السنة استيلاء "داعش" على يثرب إلى انسحاب الجيش العراقي، ويقولون إنهم أيضا شاهدوا أحباءهم يخطفون ويغتالون. لكن رجال القبائل الشيعة مصرون على تطبيق قوانين القصاص القبلية ــ تعويضات مالية عن الخسائر في الأرواح والممتلكات، ومصادرة أراضي السنة، وطرد أقارب مقاتلي "داعش".
وسرعان ما تدخلت جماعات المجتمع المدني ولجنة المصالحة الوطنية في العراق. فهم يخشون أن استخدام الأعراف القبلية قد يولد ضغائن طويلة الأجل. وجادلوا بأن الأعراف القبلية يمكن أن تساعد على تسوية النزاعات الأسرية، لكنها لا تقرر مصير الآلاف. ولذلك تم عقد عديد من الاجتماعات مع مشايخ يثرب، حتى أن أحد الوسطاء قال مازحا إنه لم يعد قادرا على عدها.
وأدى تدخل السياسيين المتعطشين لتحقيق نتائج إلى تعقيد الوضع أكثر. في عام 2015 حاول المحافظ السابق لمحافظة صلاح الدين، التي تقع فيها يثرب، أن يحل الأزمة من خلال توزيع أربعة مليارات دينار (3.36 مليون دولار) على ضحايا الشيعة في يثرب. لكن القبائل حصلت على جزء فقط من المدفوعات ــ ذهب بعضها إلى مدن أخرى، وبعضها الآخر اختفى كليا. وجادلت القبائل بأنها لا تعتبر هذا تعويضا قبليا واستمرت في منع عودة السكان السنة,
وبعد سنة أخرى من الاجتماعات تولت ميليشيا عصائب الحق الشيعية المهيمنة على يثرب، القيادة في البلدة. وفي أواخر 2017 فرضت صفقة جديد تدفع بموجبها القبائل السنية مجتمعة أربعة مليارات دينار أخرى "رضوة": تعويض قبلي يتم تقديمه تعاطفا، وليس تكفيرا عن ذنب. وعاد الآن أكثر من 30 ألف سني، لكن عديدا منهم وجدوا منازلهم مدمرة، وحقولهم محترقة، ويشعرون بالمرارة حيال الصفقة.
يقول أحد المشايخ السنة: "نحن ضحايا لداعش مثلهم تماما". ويضيف: "لكن بعد ثلاث سنوات من الانتظار ها نحن ندفع في كل الأحوال، ولولا ذلك لم نكن لنعود أبدا".
وتبقى الأرقام محل نقاش، لكن الوسطاء يعتقدون أن نحو 15 ـ 30 ألفا آخرين من السنة ينبغي أن يحظوا بفرصة العودة إلى يثرب.
ثمة شرط آخر أشد قسوة في الصفقة يتطلب من السنة العائدين الذهاب إلى المحكمة والتبرؤ من أقاربهم المتهمين بأنهم أعضاء في "داعش". والعائلات التواقة للعودة قد تفعل ذلك دون أن تدرك أن هذا يعني وصم الشخص بأنه "إرهابي" وفقا للقانون العراقي، ما يسهل تنفيذ عملية إعدامهم، أو يسهل للقبائل الأخذ بثأرها منه.
وبحسب أحد الوسطاء: "عملية المصالحة ليست فقط حول الأشخاص الذين يستطيعون العودة". ويضيف: "إذا لم ننجزها بشكل صحيح، فإن هذا سيوجد مشكلات جديدة".
يقول مسؤولون عراقيون إن الصفقات القبلية قد تكون قاسية، لكن الوصف نفسه ينطبق على البدائل. ويتذكر أحد الوسطاء المدعومين من الحكومة حين ساعد أقارب لأعضاء في "داعش" على العودة إلى ديارهم في إحدى المناطق من دون صفقة قبلية. فكانت النتيجة أن عائلة بأكملها ـ بمن في ذلك الأطفال ـ تم اغتيالها بعد أيام معدودة. ويقول هذا الوسيط: "ربما نكون ضد تلك التسويات القبلية، لكن ليس أمامنا خيار آخر".
ويشدد خلف، رئيس منطقة يثرب، على أن الجميع سيرجعون إلى البلدة يوما ما، لكن ذلك فقط حين تفرض ميليشيا محلية قوية الحل ـ ويتم القبول بالأعراف القبلية.
ويقول: "حين تتحلى الحكومة بالقوة تضعف القبلية. لكن حين تضعف الحكومة تقوى شوكة القبيلة".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES