ثقافة وفنون

«الجرب الثقافي» .. عدوى ذم القريب وتبجيل البعيد

«الجرب الثقافي» .. عدوى ذم القريب وتبجيل البعيد

«الجرب الثقافي» .. عدوى ذم القريب وتبجيل البعيد

«الجرب الثقافي» .. عدوى ذم القريب وتبجيل البعيد

تزامناً مع مرض "الجرب" الذي انتشر في مناطق مختلفة من المملكة، عاد إلى الواجهة مصطلح قديم جديد؛ "الجرب الثقافي"، الذي أعاده الناقد الدكتور عبدالله الغذامي إلى الأذهان، مطلقاً كثيرا من التكهنات للتعريف بهذا المرض الثقافي.

لا أحد ينتبه له
البداية كانت من الملتقى السنوي الثالث للغة العربية "الأدب السعودي الجديد"، الذي نظمته الجامعة العربية المفتوحة أخيراً في مدينة الرياض، حينما تحدث ضيف شرف الملتقى الناقد الدكتور عبدالله الغذامي في كلمته الافتتاحية عما أسماه "الجرب الثقافي"، محذراً من هذا المرض الخطير.
الغذامي حذر منه بقوله "الطبيب يمكنه أن يتعامل مع جرب الجسد، لكن من يستطيع اليوم أن يتعامل مع جرب الثقافة؟ جرب الثقافة خطير جداً ويعدي أكثر من جرب الجسد، الجرب الثقافي لا أحد ينتبه له". بعد تحذير وتساؤل، انبرى مثقفون وكتاب يتعمقون أكثر في معنى مصطلح الدكتور الغذامي، خصوصاً أنه لم يوضح من يقصد بحديثه، أو كيف نفرق بين المثقف السليم وذاك الذي أصابه "الجرب".
لفيف من التكهنات أصاب مثقفين ومثقفات، حتى كتب أحدهم وزاد الأمر غموضاً حينما كتب "الجرب الثقافي انتشر، وليس له علاج فوري، لأنه مستعص، وبطبيعة الحال هو معدٍ وسريع الانتقال، طالما وجد حاضنة جاهزة ومستعدة".

البدوي الأخير يكشف الأعراض
في بحثها عن أصل هذا المصطلح، عثرت "الاقتصادية" على قصاصة لمقال صحفي كتبه الأديب والشاعر الراحل سليمان الفليح - يرحمه الله -، أو "البدوي الأخير" كما يلقبه البعض، عن هذه الحالة، حيث كتب في عموده الشهير "هذرلوجيا" مقالاً بعنوان "الجرب الثقافي".
المقال، الذي يعود تاريخه إلى 29 ديسمبر من عام 1975م، يحذر فيه الفليح من "ظاهرة (جربية) خطيرة بدأت تتسع "حكتها" في الوسط الثقافي بشكل يدعو إلى ضرورة إحضار القطران قبل اتساعها لئلا يستعصي علاجها ويصبح الفكاك منها مرهوناً بالتغيرات الزمنية، ولأن أخطر ما في هذه "الحكة الجربية" أن المصاب بها يعض جوانبه بطريقة هستيرية".
الشاعر الراحل قدم تفسيراً أكثر وضوحاً من الناقد الغذامي، حينما استفاض في حديثه وكتب واصفاً الحالة "يرجى الانتباه لها لأنها بالطبع ليست صحية كما يفسرها البعض، ولأن علاجها وقطرانها وخطرها معاً بأيدي هواة "الطريقة البعارينية" أنفسهم، كيف؟"، ويبيّن "بعض الأدباء أو الشعراء مصابون بعقدة القدح في زملائهم في غيابهم مهما كلف الثمن والموقف، فيحلو لهم أن يصفوهم بالسطحية، والتقعر، والفراغ، والخوائية، والفالصو. وما أن يلتقوا بهم حتى يصبحوا بنعمة الله إخواناً "ما بينهم إلا ما حرم الله"، فيبدأون بإضفاء الصفات التبجيلية عليهم حتى لو خالف كل ما جاء على ألسنتهم أمس".
وزاد الكاتب سليمان الفليح أكثر عن المصابين بالجرب الثقافي، حينما وصف فريقاً ثانياً منهم، حيث كتب "أما البعض الآخر فإنهم على العكس منهم تماماً "ماسحو جوخ" من الدرجة الأولى، ما أن يقدم لهم أحد الناشئين عملاً حتى هللوا وتهللوا، ومنحوه صفات يسقط من ثقلها قبل أن يتعلم كيفية حملها"، فيما يختتم مقاله "وهناك طرف ثالث مهمته تنحصر في ممارسة اللطم على الخد والرندحة على هذه "البلوى"، والوسط المذكور يمارس من جهة أخرى هواية "الصمخ" بالأيدي. "الشرهة" عليكم يا حملة الأقلام بتهذيب بعضكم بعضاً قبل أن يأكل بعضكم بعضاً".

تناقض المثقف
لا شك أن "الجرب" بوصفه مرضاً ثقافياً يكسب المثقف صفات سلبية، حيث يلتصق به دون أن ينتبه، ولا يعود بإمكانه أن يشفى منه.
والجرب، كأي مرض، يحتاج إلى تحليل لمعرفة طرق الاستشفاء منه، وفي هذه الحالة يرى البعض أن الصفات السيئة "الجرب" حينما تلتصق بالمثقف فإن مرد ذلك يعود إلى تناقض المثقف مع نفسه، حيث يحاول أن يدعي المثالية في كتاباته وإنتاجه الأدبي، لكنه عكس ما يكتبه تماماً، وصفاته تكشف عن شخصية مغايرة.
وكان للمفكر العراقي أحمد جابر الصعب مقال حول ذلك، حيث يتناول بعمق سيكولوجية المثقف، ويرى أن صراع المثقف بين ذاته يفضي إلى نتيجتين منطقيتين؛ الأولى: وجود ثقافتين في الفرد الواحد هما الثقافة الخاصة به والثقافة الخاصة بالدور الذي يؤديه، والثانية: ازدواج الثقافتين في الفرد الواحد "المثقف تحديداً" يفضي إلى إشكالية سلوكية.

أيقونة لا تمرض
المثقف، كأي شخص يؤدي دوره التنموي في المجتمع، عرضة للأمراض السلوكية، لكن كثيرين يعيبون على المثقف انتقال العدوى إليه، كونه قدوة وأيقونة لدى أفراد المجتمع.
وفي هذا الصدد، يدعو مثقفون إلى إجراء دراسات وأطروحات على سيكولوجية المثقف السعودي والعربي عامة، وهي شحيحة بل تكاد تكون منعدمة، في حين تكثف بعض المجتمعات الغربية بحوثها ودراساتها على هذه الفئة، إذ تجري دراسات على المثقف في حالتي السلم والحرب، وفي كافة التغييرات التي تمر بها البلاد، للوقوف على حالة الثقافة وما لذلك من مدلولات أخرى على المجتمع، أما في المملكة، فتبرز الحاجة إلى تلك الدراسات في ظل التغييرات الاجتماعية التي تعيشها اليوم، ووسط ثورة تقنية المعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي التي تؤثر في سلوكيات المثقف وطريقة تواصله مع الآخرين.
على نحو آخر، تفرق هذه الدراسات بين المثقف الحقيقي و"المثقف المزيف"، الذي يؤيد مواقف ومبادئ بحسب أهوائه ومصالحه الشخصية، ثم يحرف بوصلته دون ثبات، ليمارس تضليلاً لجمهوره والمجتمع، في حين يمكن الكشف عن سلوكيات المثقف وتعامله مع الآخر بدراسة مدى استقباله النقد بكافة صوره وأشكاله، أو من خلال آرائه في زملائه المثقفين.
وعطفاً على بدء، يربط البعض حديث الدكتور عبدالله الغذامي عن "الجرب الثقافي" بموجات التطرف والتعصب، التي يساندها مثقفون في الفضاء الرقمي، يمارسون تزييف الحقائق وتضليل الآخر بواسطة أدوات الثقافة والمعرفة، وقد كشف الناقد الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد بعضاً من ملامح ذلك في كتابه "صور المثقف"، نتناولها بشكل أوسع في الأيام المقبلة.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون