Author

فهم الرياضيات يحدد .. من وأين أنت الآن؟

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
تعلموا الرياضيات وعلموها، فإنها ضرورة حضارية. ضرورة لفهم كل العلاقات في كل المجالات، تلك العلاقات التي نراها، والعلاقات التي تختفي خلفها. فالرياضيات قلب المنطق، والمنطق قلب العلم، وبدونهما كل شيء يصبح مجرد خبرات إنسانية غير مصنفة، ولا يمكن تناقلها، ولا ترقى لأن تكون مجالا للدراسة ولا للعلم. وإذا كان هذا النقاش صحيحا، فالرياضيات هي العلم الإنساني في أرقى صورة. ولا تزال إنجازات "لي كوان يو" رئيس وزراء سنغافورة السابق في تطوير التعليم، شاهد عيان لما يمكن لمنهج تعليمي حديث يرتكز على الرياضيات، من إحداث تغيير حضاري هائل. فالرياضيات ـــ كما هو معروف ـــ تنقسم إلى علوم، أولها وأكثرها إثارة هو علم المنطق نفسه، والثاني هو الحساب، والثالث هو الجبر، والرابع هو الهندسة، مع كثير جدا من الإحصاء والاحتمالات والتفاضل والتكامل. وإذا كانت أهم العبارات، التي تعلمتها شخصيا في هذه الحياة، أن الإنسان يصل إلى مستوى أعلى من قدرته على التعامل معها "أي أعلى من مستوى العجز"، فيمكن القول بمزيد من الثقة عندي، إن مستويات الناس، كما عرفتها، تختلف باختلاف مستويات تعلمهم للرياضيات. وليس في هذا التشخيص الذي أقدمه في هذا المقال، تقليلا من أي شخص أو مهنة أو تخصص أو تجربة، لكن تدليلا على أهمية تعلم الرياضيات، إن كنا نريد الانعتاق ومشاركة العالم بعضا من ابتكاراته. في المستوى الأول أقول، إن الشخص الذي لا يعرف من الرياضيات حتى المنطق، وعاجزا عن فهمه، فلن يمكنه العيش في هذه الحياة المدنية بكل ظواهرها اليوم. وبمعنى آخر، فإذا فقد الإنسان قدرته على فهم المنطق السائد، أو أن المنطق الذي يدركه لم يعد قائما فيما حوله، ففي غالب الأمر، أنه الآن قد اعتزل الناس والمجتمعات. وأما إذا كان الشخص يدرك بعضا من مبادئ المنطق، مثل أكبر وأصغر، مثل أداتي إذا وإن الشرطيتين، ويدرك بعضا من الحساب، فإنه في غالب الأمر قادر على التواصل بنجاح جزئي مع الحياة من حوله. وفي المقابل، قد يصعب عليه فهم كثير مما يثار ويناقش، مثل هذا الشخص -إن وجد- فهو يعجز عن الحصول على شهادة التعليم المتوسطة، لكنه وفق قاعدة "الوصول إلى أعلى من العجز"، سيستطيع بعد جهد الحصول عليها، ثم يكتفي بها، ويخرج إلى الحياة العملية. وفي المستوى الثاني، يأتي الشخص القادر على فهم الجبر والمعادلات الرياضية، وقادر على حل معادلة من الدرجة الأولى بمجهول واحد. مثل هذا الشخص سيكون قادرا على الوصول بسلاسة إلى المرحلة الثانوية، لكنه غير قادر على الوصول إلى الجامعة، وسيواجه صعوبات جمة في اختبارات القدرات العامة، ليس في جانب الرياضيات، ولكن في جانب العلاقات وفهمها. هذا الشخص في غالب الأمر يعاني مشكلة البطالة، وهو غير قادر على مواصلة الحياة دون دعم الآخرين. لديه شعور قوي بالطموح، لكنه غير قادر على فهم مسارات الأمور، وغير قادر على قبول وظائف يراها أقل من مهاراته، على الرغم من أنه غير قادر على تعريف مهاراته بدقة. في المستوى الثالث، يأتي الشخص القادر على فهم المعادلات من الدرجة الثانية، وحل معادلة من مجهولين، لكنه غير قادر على فهم تطبيقاتها، ولا فهم معادلة الخط المستقيم، ولا تمثيل الدوال، فإنه في غالب الأمر قد حصل على مقعد في الجامعة، دون أي اهتمام من قبله بماهية التخصص. المسألة عنده هي الوصول إلى الجامعة، وقرار التخصص يأتي كما أتت به الدرجات. كل التخصصات عنده سواء لا فرق، طالما أنه في الجامعة، وما بعد الجامعة خارج إدراكه تماما. مثل هذا الشخص، قد يواجه صعوبات جمة في فهم الجامعة والعلاقات فيها، وقدرته في الحصول على العلم محدودة فيما يكفيه لاجتياز الاختبار، وقد يجد صعوبة في النجاح أحيانا، وبعضهم يخرج من الجامعة بعد سنوات من التعثر، خروجا إلى مشكلة البحث عن أية وظيفة، حتى وإن كانت معه شهادات مهنية، فهو غير قادر على تقييم مهنته. في المستويين الرابع والخامس، إذا كان الشخص يفهم المعادلات الرياضية وفنون الجبر، وتمثل الدوال على مستوى ديكارتي، وكان قادرا على فهم هندسة فيثاغورث، وهندسة الدائرة والزوايا والجا والجتا، فإنه في غالب الأمر قد حصل عن جدارة على مقعده في الجامعة وفي التخصص الذي خطط له تماما. يدرك بوعي كل ما يدور حوله، كما أنه قادر على المناقشة بحدة، وتجده يدافع عن قضية ما. يستطيع النجاح في الجامعة والحصول على وظيفة بسهولة، وإذا كان متفهما للتفاضل والتكامل والاشتقاق، فإنه قد يصل في العلم وفي الحياة والعمل إلى مستويات متقدمة ورفيعة جدا، وهو قادر إلى حد ما على الابتكار والإبداع، ولكن في محيط تكرار التجارب فقط. أما المستوى السادس، فيأتي إذا كان الشخص قادرا على استخدام الرياضيات في الحياة بسهولة، وقادرا بشكل أساسي على تمثل المشكلات والعلاقات في معادلات رياضية مبتكرة ومشتقة من كل علوم الرياضيات، وقادرا على اكتشاف العلاقات الجديدة واستخلاصها من بين العلاقات القائمة، وقادرا على إثبات النظريات القديمة وإعادة تقديم تفسيرات جديدة لها، وأيضا تطبيقات جديدة، فإنه في غالب الأمر لا يعيش في العالم العربي اليوم، ولن تجده بيننا. ذلك أننا إن أردنا القفز الحضاري، الذي نجحت فيه سنغافورة وكررته ماليزيا ولحقت بهما كوريا الجنوبية، فعلينا إصلاح التعليم من خلال الرياضيات، وأن ننقل شبابنا إلى المستوى الرابع على الأقل من هذا التصنيف، وأن نبذل كل جهودنا ليصل كثير من شبابنا إلى المستوى السادس.
إنشرها