Author

صناعة السياحة والخيال الممكن

|
حين استدعي العقيد طيار سلطان بن سلمان عام 2000 لمهمة تأسيس جهاز حكومي جديد لم يكن يظن أنه سيستغرق 18 عاما من العمل المتواصل المليء بالتحديات من أجل صناعة سياحة وطنية ناجحة. المهمة التي كان يقنعه بها رجل الدولة الكبير سلطان بن عبد العزيز رحمه الله، أما الملك عبد الله، يرحمه الله، فقد كان يقول له أربع سنوات فقط ويكمل غيرك لتتحول الأربع إلى ليال طويلة من السهر والتعب والتخطيط المستمر لصناعة منتج سياحي في مجتمع "متوجس" أصلا من مفهوم السياحة. يقول الأمير سلطان بن سلمان رئيس الهيئة العليا للسياحة والتراث الوطني في كتابه الثمين "الخيال الممكن": "لم نبدأ من الصفر ولم يكن هناك صفر بالأساس كنا نبحث عن الصفر لنبدأ" وهي عبارة تجسد فعلا حجم التحديات التي واجهها رئيس الهيئة وفريق عمله وهم يواجهون المهمة الأصعب في تأسيس جهاز يعنى برسم استراتيجيات العمل السياحي بكل تعقيداتها الاجتماعية والاقتصادية والإدارية. لم يكن الأمير حين تسلم مهامه وبدأ عمله من منزله ثم مكتب صغير بجوار المنزل يملك أيا من أوراق اللعبة في صناعة المنتج الواعد، فالمجتمع "متوجس" والمتخصصون قلة، والتخصصات مبعثرة بين الجهات الأخرى فالفنادق، تحت إشراف وزارة التجارة، والمتاحف والآثار تحت إشراف وزارة التعليم، والمشاريع والمنتجعات السياحية تحت إشراف البلديات، واستراحات الطرق تحت إشراف وزارة النقل، والرحلات السياحية والطيران تحت إشراف الطيران المدني. فماذا يفعل "الرئيس" في مواجهة هذا الشتات؟ وكيف يمكن مواجهة وإقناع هذه الجهات الغارقة في التقليدية "والبيروقراطية" بالتخلي عن صلاحياتها للهيئة الجديدة؟ لقد كشف كتاب فن الممكن عن رحلة شاقة وتجربة إدارية عميقة ومليئة بالمواجهات، قادها بحكمة ومهارة إدارية وقيادية سلطان بن سلمان واستطاع تجاوز عقبات كثيرة في سبيل إنجاز هذا التحدي. هيئة السياحة رغم كل الانتقادات التي نالتها إلا أنه للإنصاف حققت كثيرا من النجاحات عبر رحلتها الصعبة، فهي اليوم واحدة من أفضل مؤسسات الدولة في العمل المؤسسي والتنظيمي وتضم نخبة من الكفاءات في صناعة السياحة، واستطاعت عبر هذا العمل المؤسسي العمل طوال العام عبر عشرات المهرجانات التي دعمتها الهيئة وحفزتها للاستمرار والنجاح في الطائف والباحة وعسير والجوف وينبع وجازان وعنيزة ومن منا لا يعرف مهرجان الورد، ومهرجان الرمان، ومهرجان الحريد، ومهرجان الزيتون، ومهرجان الغضا، ومهرجان الزهور، ومهرجان التمور، ومهرجان العسل، ومهرجان سوق عكاظ. ومن المهرجانات إلى النقلة الفارقة التي تحققت في عالم الآثار والمتاحف وانتشالها من الإهمال والضياع، فعشرات القرى والقصور التراثية تم ترميمها وإعادة إنتاجها كما كانت في الباحة، ورجال ألمع، والغاط، والمجمعة، والجوف والمدينة المنورة، عبر البرنامج الوطني للتراث، والسجل الوطني للمواقع الأثرية، ويضاف إليها عشرات المتاحف التي تم تدشينها لتشكل جزءا من منظومة التراث الوطني عززت الهيئة جهودها بإعادة ترميم الأسواق التاريخية ومراكز المدن لتعود الحياة إليها كما فعلت في جدة التاريخية، وسوق البلد التاريخي في الطائف وسوق الثلاثاء الشعبي في عسير وسوق القيصرية بالأحساء. وما ينطبق على المهرجانات والتراث الوطني ينطبق على منظومة من المبادرات التي أطلقتها الهيئة في تحفيز قطاع الفنادق والشقق المفروشة، وتحسين خدمات الطرق، وإعادة هيكلة الوكالات السياحية، وتحسين خدمات المطارات، وتطوير برامج المعارض والمؤتمرات الوطنية، وتأسيس برنامج الحرف الوطنية، وتأسيس البرنامج الوطني للموارد البشرية، والجمعيات المهنية السياحية، وإنشاء مركز الأبحاث والمعلومات السياحية، ومبادرة الهيئة في تأسيس مجموعة من كليات السياحة والفندقة بالشراكة مع الجامعات والتدريب المهني وإطلاق برنامج التمويل السياحي، وتسجيل المواقع الأثرية ضمن التراث العالمي واستعادة آلاف القطع الأثرية من خارج المملكة. وما تحقق لم يكن يخضع للعمل العشوائي أو ردات الفعل المنفعلة بل كان ينطلق من الاستراتيجية الوطنية للسياحة التي أنجزت في عامين، وشارك فيها قرابة سبعة آلاف طرف ما بين أفراد ومؤسسات حكومية وأهلية، وجهات تعليمية وبحثية، يصفها سلطان بن سلمان بقوله: "إنها لم تستنسخ من تجارب أخرى بل بأنفاس السعوديين وعقولهم وبذهنيتهم وقيمهم". لقد وثق كتاب الخيال الممكن تجربة ملهمة مليئة بالتحديات والصبر والنفس الطويل وهي تجربة مهمة لنا كجيل شاب ولعشاق العمل الإداري في مؤسسات الدولة. وأجزم أن ما تحقق لم يكن بمستوى طموح المؤلف ولكنه فن الممكن. ولعل برنامج التحول الوطني الذي رصد جاهزية الهيئة لمبادرات "رؤية المملكة 2030" سيكشف كثيرا من المنجزات العملاقة على أرض الواقع تجعل من مشاريع الخيال التي رسمتها الهيئة أمرا واقعا ويكفي أن "نيوم، والقدية، والعلا، وسوق عكاظ، وجزر فرسان" أصبحت تبنى أمام أعيننا. شكرا أيها القيادي الفذ سلطان بن سلمان.
إنشرها