Author

الإعلام العربي .. وفوضى الإسناد

|
أستاذ جامعي ـ السويد

لن تفي المساحة المخصصة لهذا العمود لإلقاء الضوء على مفهوم الإسناد لدى العرب والمسلمين. وربما لن أتمكن من تبسيط هذا المفهوم اللغوي والفكري والفلسفي وشرحه مع أمثلة من التاريخ الإسلامي، ومن ثم مقارنتها بما يحدث في العصر الحالي حتى لو كتبت سلسلة طويلة من المقالات.
ما سأركز عليه هذه الجمعة يتعلق بتقديم تعريف مبسط للإسناد ودوره في حفظ السنة النبوية الشريفة، ومن ثم أعرج ببعض الإسهاب إلى الدور غير الحميد الذي يلعبه الإسناد في الإعلام العربي في تشويه الحقائق والواقع الاجتماعي للأحداث التي ينقلها.
يذهب بعض المفكرين العرب من القدماء إلى اعتبار الإسناد نعمة وفضيلة من بها الله على العرب دون الأمم الأخرى. ويجعل الآخرون الإسناد بمنزلة سنة من السنن أو فرض من فروض الكفاية.
ومنهم من رفع من شأن الإسناد وتعاملوا معه وكأنهم يتعاملون مع أي شأن من شؤون الدين.
هناك المزيد والمزيد ولكنني أكتفي بهذا القدر منطلقا من النقطة الأخيرة التي أراها أكثر أهمية، وهي أن الإسناد كممارسة هو جزء من الدين.
وهذا يعني أن الذي يحاول إسناد قول إلى النبي الكريم عليه أن يخشى الله وأن يتجنب الكذب وكل ما له علاقة بعدم المصداقية. الأمانة والصدق والدقة والنزاهة والموضوعية في الإسناد تأتي على رأس المعايير التي اتخذها العرب لتقييم أي اقتباس وليس فقط الاقتباس من الرسول الكريم.
وهكذا لا يعتد بأي قول إن لم يكن قائله معلوما ومعروفا ومشهودا له بالصدق والأمانة والنزاهة.
وعليه لم يثق العرب بأي اقتباس أو قول سنده مجهول الهوية أو مصدره أناس لا نعرف من هم ولا دراية لنا بماهيتهم وزمنكانيتهم وأسمائهم الصريحة وغيره من الشروط التي لا يتسع المجال هنا لذكرها.
لقد ألهى الإعلام العربي ـــ وهنا لا أشير إلى الخطاب الدارج في شبكات التواصل الاجتماعي بل إلى الإعلام الرئيس ــــ عن كل مكارم الإسناد التي توصل إليها العرب في دراسات الحديث بقرون قبل أن تأخذ طريقها إلى أروقة المدارس والجامعات في الغرب.
ماذا يكون موقفنا لو اكتشف باحث في علوم الإسناد بالعربية أن مصدر حديث شريف ما هو إلا شخص ـــ على سبيل المثال ـــ مشهود عنه عدم الصدق وأنه يقول شيئا ويفعل شيئا آخر أو أنه ينقل الحديث هنا وعندما يذهب إلى هناك له خطاب مختلف تماما؟
أليس هذا ما نشاهده ونقرؤه في كثير من الأحيان لإعلاميين بارزين، حيث ينشرون خطابا يعبرون فيه عن آرائهم وميولهم بلغة مشحونة قد تحمل في طياتها عبارات أقل ما يقال إنها غير محتشمة بحق من يخالفونهم ومعهم أصحاب نعمتهم الرأي؟
إظهار الميل والعواطف واستخدام لغة مشحونة دليل عدم نزاهة الوسيلة الإعلامية وكذلك الصحافي الذي يقوم بذلك. إنه محاولة مكشوفة لخداع المتلقي وتزوير المعلومة.
وشخصيا أعزو السبب إلى غياب الأسس السليمة التي وضعها العرب لإسناد الأقوال إلى مصادرها.
لا أعلم كيف ولماذا وصل الأمر بالإعلام العربي إلى إقحام المصادر المجهولة وبالجملة كأساس للإسناد والاقتباس.
في الحقيقة لا أعلم أيضا من أين استقى العرب، وهم يحملون إرثا لا مثيل له في علوم الإسناد الصحيح، أطرا خطابية كهذه الجملة مثالا:
وأكدت مصادر متطابقة: "أن الوضع في البلد متأزم وأن الناس لم تعد تتحمل ما تفرضه الحكومة من ضرائب".
هذا مثال بسيط لما صار تقريبا إطارا لغويا مقبولا في الصحافة العربية؛ أعني عملية إسناد أقوال خطيرة إلى مجموعة من المصادر مجهولة الهوية. إسناد هكذا ما كان يقبل به العرب قديما وفي حكم العقل والعلم والأكاديمية في عالم اليوم يعد انتهاكا صارخا للنزاهة والموضوعية، ونقله بهذه الصيغة ما هو إلا ضحك على ذقون المتلقين.
وأي مثال في هذا السبيل لن يكون إلا غيضا من فيض.
هل مثلا تفحصنا الإسناد في وسائل إعلام عربية رئيسة؟ أي قراءة متأنية ستظهر أن أغلب الإسناد هو للمصادر بالجملة وهي غير معرفة أيضا.
وهكذا كثر في الإعلام العربي الإسناد الذي يأخذ مثلا من الناشطين بصورة عامة كمصادر أساسية في نقل المعلومة. وهكذا صرنا أمام صيغ خطابية كانت العرب تمقتها سابقا إلا أنها صارت جزءا من الخطاب الإعلامي العربي اليوم.
من منا لم تقع عيناه على جمل في أخبار رئيسة تنقل أحيانا حرفيا وأحيانا أخرى بصورة تعبيرية غير مباشرة عن الناشطين وهي تبدأ مثلا بـ "قال ناشطون.. وأكد ناشطون.. وأجمع ناشطون.. وأضاف ناشطون.." وإلى غيرها من الجمل.
لقد هالني الأمر عندما قمت بتحليل خطاب خبر نشرته وسيلة عربية إعلامية رئيسة يستقي منها عشرات الملايين الأخبار والمعلومات والخبر في مجمله يستند إلى أقوال الناشطين غير المعروفين ومجهولي الهوية.

إنشرها