Author

الرقميون .. والمهاجرون إليهم

|

كرم الله الإنسان ليس "بالعقل" فقط الذي ميزه به عن سائر مخلوقاته، بل "بالطبيعة" من حوله أيضا، وكل ما فيها من أسرار وإمكانات يكتشفها عقل الإنسان ويسخرها لمتطلباته وطموحاته. وليست التقنيات والوسائل التي بين أيدينا اليوم معطيات صنعها عقل الإنسان، بل إنها وسائل استطاع ابتكارها استنادا إلى اكتشافه لخصائص الطبيعة من حوله، وتوجهه نحو الاستفادة منها. فلولا فهمه حركة الهواء والسرعة وزوايا تأثيرها في الأجسام، لما استطاع أن يبتكر الطائرة؛ ولولا اكتشافه ظاهرة الكهرباء والأمواج الكهرومغناطيسية، لما كان هناك اتصالات سلكية أو لاسلكية؛ ولولا اكتشافه تكوين المادة وجزيئاتها، لما عرف علم الإلكترونيات وسخره للحاسوب والتقنية الرقمية بأشكالها المختلفة.
ويحلو لكثير من المفكرين والعلماء ربط الأجيال بالمعطيات التقنية. ولعل أبرز ما نسمعه حاليا في هذا المجال تعبير "المواطنين الرقميين"Digital Natives. وقد عرف براهيما سانوBrahima Sanou، المسؤول في الاتحاد الدولي للاتصالات ITU، هؤلاء بأنهم أبناء الجيل الجديد الذين يتمتعون بخبرة خصبة في مجال تقنية المعلومات والاتصالات، ويسهمون بفاعلية في توجيه مجتمع المعلومات. وعرفهم خبير آخر بأنهم أولئك الذين ولدوا ابتداء من عام 1980. أما أبناء الأجيال الذين ولدوا قبل ذلك، وحاولوا متابعة تقنيات المعلومات والاتصالات وقاموا باستخدامها، فهناك من أسماهم بالمهاجرين الرقميينDigital Immigrants، أي الذين هاجروا من العالم "قبل الرقمي" الذي ولدوا فيه إلى العالم "الرقمي" الذي يعيشون فيه.
وإذا كان التقدم الرقمي الذي شهده المهاجرون الرقميون كبيرا، فإن المواطنين الرقميين، من أبناء الجيل الجديد، سيشهدون تقدما أكبر، استنادا إلى تسارع معطيات التقنية الرقمية ومستجداتها. وقد يعاصر هؤلاء جيلا آخر متقدما عنهم، ربما يدعى بجيل "المواطنين السوبر رقميين" الذين يتمتعون بإمكانات تحاكي أساطير ما يعرف بالرجل الخارق Superman.
نريد في هذا المقال أن نقول، نعم هناك اختلاف كبير في طبيعة حياة الإنسان بين عصر وآخر، والدور الأكبر في هذا الاختلاف يأتي من التقدم التقني، والشواهد على ذلك كثيرة. لكننا نريد أن نقول أيضا، إن للإنسان صفات إنسانية مشتركة تؤثر في الحياة، ولا يغيرها اختلاف العصور. ولعلنا نطرح فيما يلي رسالة باسم "المهاجرين الرقميين" خبراء الماضي، تشمل أفكارا في هذا المجال، موجهة إلى أبنائهم "المواطنين الرقميين" أصحاب المستقبل. وسنقوم بذلك من خلال أربعة محاور رئيسة: محور ثقافي؛ وآخر اجتماعي؛ وثالث اقتصادي؛ ورابع بيئي.
يمثل المحور الثقافي منطلقا رئيسا لسلوك الإنسان في جميع نواحي الحياة. ونحن كمسلمين لدينا قواعد ثقافية جوهرية مهمة يصح أن نتذكرها دائما، في كل زمان ومكان. وهذه باقة متكاملة من ثلاث قواعد جوهرية رئيسة: أول هذه القواعد ثقافة الأخلاق، وقول الرسول ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"؛ والثانية ثقافة التفكير والتدبر والإبداع والابتكار في مختلف قضايا الحياة؛ وثالثها توخي الحكمة، واتخاذ القرارات الأكثر صوابا، بما يعظم الفوائد، ويدرأ المخاطر، عبر نظرة شاملة إلى ما هو مطروح، وآفاق مستقبلية استباقية، تبعا للحاجة. ولعله من المفيد في الإطار الثقافي أيضا أن يحرص الإنسان على الاطلاع على ثقافات الشعوب تعزيزا لاستيعابه لمعطيات الحياة.
ونأتي إلى المحور الاجتماعي، ويرتبط هذا المحور بمسؤولية الإنسان. ولهذه المسؤولية دوائر تأثير متعددة، تعتمد على ما يرتبط بهذا الإنسان أو ذاك. فهناك الدائرة الذاتية ومسؤولية الإنسان تجاه ذاته؛ وهناك الدائرة الأسرية وما يرتبط بها من واجبات تجاه من هم أكبر ومن هم أصغر سنا. ثم هناك دائرة الأصدقاء والزملاء، ودائرة العمل المهني والتميز في الأداء، والارتقاء والتوسع في التأثير في شؤون الحياة المختلفة، تبعا لما يمكن أن يصل إليه الإنسان من مكانة. في إطار جميع هذه الدوائر على الإنسان أن يؤدي واجباته تجاه كل فرد، وتجاه المجتمع، بل العالم من حوله، منطلقا في ذلك من ثقافات الأخلاق والتفكير والحكمة، ومن احترام الذات، ففي احترام الذات درء لكل سلوك غير قويم.
ونصل إلى المحور الاقتصادي، فبإنتاج السلع وتقديم الخدمات وتداولها وتبادلها، وبالأجور والإنفاق، على المستويات المحلية والعالمية، تتحرك نشاطات الحياة في مختلف المجتمعات. وللإنسان في هذا المجال دور متشعب، بل متعدد أيضا. فعليه أن يكون منتجا معطاء للسلع أو الخدمات، بل عليه أن يكون مبدعا ومبتكرا، وربما رائدا للنشاطات الاقتصادية أيضا. ثم عليه أن يكون منفقا ومستمتعا بالسلع والخدمات المتجددة، ولكن دون إسراف ولا تقتير. ولوضع الأولويات في هذا المجال أهمية كبرى؛ فالأولوية للضروريات في السلع وفي الخدمات، وبينها ليس فقط ثلاثية "المأكل والملبس والمسكن"، بل ربما السلع والخدمات الرقمية أيضا التي تسمح للإنسان أن يكون جزءا من العالم الرقمي. ويضاف إلى ذلك هنا مبدأ مهم مستلهم من توخي الحكمة اقتصاديا، والمعنى المقصود هو توازن القيمة بين قيمة السلعة أو الخدمة المطلوبة من جهة، وقيمة ما يدفع من أجلها من جهة ثانية.
بقي أن ننظر في المحور البيئي، ففي البيئة عناصر الحياة حول الإنسان، هي الأرض والهواء، هي الطبيعة من حولنا، هي كل ما سخره الله للإنسان. وعلى ذلك فنظافتها والحرص على استدامة خيراتها ضرورة للجميع. الأرباح الاقتصادية لا تبرر تلوثها، فالحياة بنقاء بيئي أهم من أي مال. يضاف إلى ذلك أن البيئة ليست ملك جيل بعينه، بل هي ملك الأجيال عبر الزمن، تتوارثها جيلا بعد آخر، ما شاء الله لحياة الإنسان أن تستمر.
أيها المواطنون الرقميون، نحن المهاجرون الرقميون معكم ومع مستقبلكم بقلوبنا وآمالنا. نريد أن نذكركم، بل نذكر أنفسنا أيضا، بمكارم الأخلاق، وبالتفكير وتوخي الحكمة، وبسعة الرؤية والتعرف على العالم. نريد منكم الاهتمام بالمسؤولية الاجتماعية على المستويات كافة. نريد وعيا اقتصاديا يركز على الأولويات، ويؤكد على القيمة. نريد حرصكم على بيئة نظيفة بعيدة عن التلوث، فهي مسؤولية كل جيل تجاه الجيل الذي سيأتي بعده. ونريد أخيرا استخداما مفيدا للتقنية الرقمية يأخذ في الاعتبار كل ما سبق.

إنشرها