ثقافة وفنون

داريوش شايغان .. رفض سرقة الملالي للثورة فسرقوا وطنه

داريوش شايغان .. رفض سرقة الملالي للثورة فسرقوا وطنه

داريوش شايغان .. رفض سرقة الملالي للثورة فسرقوا وطنه

غادرنا في صمت قبل أيام، مفكر وفيلسوف من طينة خاصة، اتسمت شخصيته بالتركيب الشديد، لجمعه بين ثقافات عدة، ولن نبالغ في القول إن حياته كلها، قامت على التعدد الهوياتي، فأبوه أذربيجاني الأصل وأمه جورجية هربا معا من روسيا إلى إيران التي ولد فيها الراحل قبل 83 سنة. أتقن إلى جانب الفارسية لغته الأم ألسنا عدة؛ كاللسان الفرنسي والعربي والإنجليزي والتركي والروسي، ثم درس لاحقا السنسكريتية، وتخصّص في الثقافة الهندية ولغتها.
أرسلته عائلته في ريعان شبابه إلى سويسرا لدراسة الطب، وهناك كان يذهب إلى مدينة كولن الألمانية ليستمع إلى محاضرات الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، وكان يرتاد في الوقت نفسه محاضرات مؤسس علم النفس النمائي جان بياجيه.
عرفت الثقافة العالمية الراحل من خلال حوار الحضارات، الذي تم إطلاقه بمؤتمر عُقِد عام 1977 في عهد الشاه، وأعيد إحياؤه في عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي. وتم تتويج مبادرة داريوش شايغان، حينما أعلنت الأمم المتحدة أن عام 2001 هو عام الحوار بين الحضارات.
وعرفته الثقافة العربية من خلال كتابه المتميز "ما الثورة الدينية؟" الذي جلد فيه ثورة رجال الدين في إيران، إلى جانب تطرّق مفكرين عرب إليه في أعمالهم ومناقشتهم لأفكاره، مثلما فعل محمد أركون وجورج طرابيشي.
قرّر شايغان نفي نفسه إلى فرنسا طوعا، احتجاجا على وصول الخميني إلى السلطة عام 1979 بعد ما سرق الثورة. ولم يعد إلى مسقط رأسه؛ في زيارة خاصة لأول مرة، إلا بعد 11 عاما. بذلك يسجل موقفه الرافض للثورة الخمينية الكهنوتية، فحتى بعد عودته؛ التي قال إنها كانت من أجل إنقاذ مكتبته، كان يعيش فيما يشبه المنفى الداخلي في إيران.
جمع الراحل بين مشارب معرفية متنوعة من آداب التصوف والعرفان الشرقي؛ الهندي منه على وجه الخصوص، والثقافة الإيرانية التقليدية، ومعها الثقافة الإسلامية، علاوة على الثقافة الغربية في محاضنها الفلسفية والأدبية الأساسية، ما أهلته ليكون فيلسوفا ضليعا في العلوم الدينية، لدرجة تصدمك أحيانا سعة اطلاعه، إذ ينقلك في الصفحة نفسها تقريبا من مرجعيات الفكر الألماني إلى مرجعيات الفكر الإنجليزي أو الإيطالي، ناهيك عن الفرنسي، والهندي البوذي.
صار جزءا من حركة فكرية عالمية قديمة، تعرف باسم "الفلسفة الخالدة"، قوامها أساس روحي مشترك لجميع البشر، قبل أن يلحقها التحريف؛ في العقود الأخيرة، لتصير حاضنة للتطرف الغربي اليميني.
يرفض شايغان في كتابه الشهير "ما الثورة الدينية؟" هذه التوصيف للثورة، ويعتبر أن المصطلح يحمل تناقضا في ذاته، فالثورة تكون عادة انقلابا على التقاليد الدينية والطائفية العتيقة لا عودة إليها. على هذا الأساس، تكون ثورة الخميني انتكاسة إلى الخلف، أو في أحسن الأحوال ثورة عملاقة سياسيا وقزمة فكريا، لأنها لم ترفق بأي تجديد فكري أو تنوير عقلي للتراث الإسلامي في نسخته الشيعية.
استثمر صاحب "النفس المبتورة" سعة اطلاعه لخوض غمار موضوع شائك؛ عادة ما يتحاشاه الكثيرون، يتعلق بالهوية في مؤلف بعنوان مثير "هوية بأربعين وجها"، يخلص فيه إلى أننا نجمع في دواخلنا كل أحقاب التاريخ الإنساني، فالفضاءات التي تصنعنا؛ بحسب شايغان، فضاءات متنوعة غير نقية، ما يعني أننا لم نعد نعيش لوحدنا في أرض مغلقة.
وكأني بشايغان يشرح بتفصيل، ما يدافع عن الكاتب الإيطالي آري دي لوكا، في كتابه "الطابق الأرضي" عن فكرة وجود عدد من الأشخاص داخل شخصية الإنسان الواحد، بيد أن الواحد منا في النهاية، مضطر أو مرغم على الظهور كفرد واحد فقط، بعدما يكون قد عوّد الأشخاص المتنوعين داخله على الصمت والسكون والتنحي.
يزج بنا الفيلسوف الروحاني -إن صحت هذه العبارة- في غمرة حديثه عن الهوية في نقاشات عميقة وطرية، ما يزال صداها يتردد في الساحة الفكرية العالمية، من بينها إشكالية صاغها في سؤال مستفز "كيف أمسى العالم شبحا؟".
شهد العقل؛ من وجهة نظر شايغان، أفولا تراجيديا، لدرجة أن العقل ضاع في غمرة التقنية، وثمة "نزعة روحية" تتحرك بمؤازاة التطورات التقنية المذهلة. وأخذ الإنسان تستهويه قراءة الطالع، ويبدو أنه "ما عاد يثق بعقله"، وكأن ما يحدث في داخله، "ليس نزعة روحية، وإنما عودة تعسفية للخرافات".
قدّم شايغان في أعماله المتنوعة (النفس المبتورة، الأصنام الذهنية والذاكرة الأزلية...) التي استغل حياة المنفى وحريات باريس، كي يؤلف بعض أفضل الكتب التي ألفها مثقف مسلم في هذا العصر، نقدا عميقا لمفاهيم الدين والقومية والحضارة والثقافة والتقنية والعولمة والصورة. ففي نظره كل شيء ممكن بل كل شيء محتمل في عالم اليوم، خاصة أنه عالم من المرايا والتخليق والإبداع، بقدر ما هو عالم التمزيق والتفتيت والتحطيم للمدارك والرؤى والقيم والأيديولوجيات والعقائد.
برع الراحل في تشخيص أزمة العالم الغربي وأزمة العالم الإسلامي كل على حدة، بيد أنه على الرغم من اعترافه بالأزمة الخطيرة التي وصلت إليها الحضارة الغربية أخيرا، فإنه يشيد بإنجازاتها، ويسجل إعجابه بها غاية الإعجاب. صحيح أنه يقول إنها حضارة فقدت روحها وأصبحت منهكة بعد ثلاثة أو أربعة قرون من الصعود والممارسة. ولكنه لا يدينها جملة وتفصيلا، لأن الفضل يعود إليها في إقامة أسس النقد والعقلانية العلمية والمؤسسات الديمقراطية، الثلاثية التي تمثل جوهر الحداثة الذي غير وجه التاريخ.
إن أهم مؤاخذة يمكن لقارئ بعض أعمال شايغان أن يخرج بها هي تعويله على الحضارة الغربية إلى حد قد يصل إلى اليأس من أي حضارة لا غربية. ما يجعله في تناقض مع نفسه من حيث لا يدري، حين يدعو على حوار الحضارات، فأي فائدة ترجى من حوار طالما الحل في الحضارة الغربية. وقد عبر أحدهم عن ذلك بقوله: "إن ذلك يحيل إلى نوع من العدمية تجاه ما هو غير غربي، الذي يغيب ليحضر بوصفه احتمالاً أو فولكلوراً أو تهويمات بلا ذاكرة، وأساطير، وأدلجات فجة، وأشكالا وطقوسا ورموزا لكن من دون القدرة على أن تقوم بأي دور فعال في عالم اليوم".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون