Author

ولكن دمع الروح لا يكفكف .. «يا علي»

|

ما كنت أحسب أني سأرثيك.. "يا علي".. فقد ألجمت المصيبة قلمي ولساني.. فما عساني أقول؟ وأي كلمات بإمكانها أن تقاوم الغياب الأبدي؟.. فالموت الذي نفر منه ملاقينا.. قضاء الله ولا راد لقضائه.. هذه حقيقة أزلية.. فمنذ قتل قابيل هابيل.. والمهد وعد باللحد.. تموت القابلة ويموت حفار القبور ومغسل الموتى وبائع الأكفان ويموت الطبيب المداوي..
ومع ذلك، أو على الرغم منه.. يظل الموت محشرا كظيما للعواطف، وسرادقا نفسيا للوحشة.. إن اغرورقت العيون بالدموع فلن يكون الحال معها أكثر مما قاله ابن الرومي "بكاؤكما يشفي وإن كان لا يجدي".. أجل.. أجل.. لا يجدي لأن الحقيقة الصارخة تبقى في قول "مالك بن الريب" وهو يرثي نفسه
يقولون لا تبعد وهم يدفنوني
وأين مكان البعد إلا مكانيا".
فالموت هو "خاتمة الأبعاد كلها".. يقيم برزخا بين الأحياء والأموات.. فلا نفاذ منه أو إليه.. وليس صحيحا ما قاله المتنبي: "تعددت الأسباب والموت واحد"، فالموت ليس واحدا قط، إنما هو ميتات بعدد أنفاس الخلائق، كما أنه ليس صحيحا أيضا قوله
فطعم الموت في أمر حقير
كطعم الموت في أمر عظيم
فطعم الموت طعوم.. ،تختلف نوعا ودرجة وحدة، إنما يظل الصحيح الأصح
هو ما قاله الجواهري:
"لغز الحياة وحيرة الألباب
أن يستحيل الفكر محض تراب!!".
يموت القريب أو الصديق أو العزيز، فيرتج علينا وكأننا لم نفجع بفقيد غيره من قبل.. تتخطفنا حيرة كاوية لا قدرة لنا على التعبير عنها، سوى أن تهوي، في العزاء، الصدور على الصدور مزقا من الكمد، وأن تتهدج الحلوق بكلمات بكماء تتلوى في داخلنا كالثعبان.. تتناهبنا الأسئلة الحائرة بلا حول ولا قوة نصالا تحفر ندوبها غائرة في الوجدان..
مع الموت يبقى اللامعقول وحده هو المعقول، فهو الذي لا سبيل إلا لتصديقه.. يأخذ النعي معه الفقيد فجأة روحا وجسدا ولا نملك غير أن نستعصم بما اكتنزناه منه وعنه.. نستبقي منه ما أحببناه فيه من نضارة الضمير ودفء الروح.. وما من أمل أبدا في اللقاء، غير أن يطل علينا في الصحو أو في النوم من شرفات الحلم والذاكرة، أو أن نحس بوقعه على خافت النبض، فنتشبث بصورته وصوته ورائحته.. سواء كنا في سديم الرؤيا أو في الوحدة أو في الزحام..
ويا علي.. هكذا تصدعت بصاعق رحيلك.. زلزلني.. النبأ.. ولحظتها "فزعت فيه بآمالي إلى الكذب" كما قال المتنبي – صادقا هذه المرة – ولم أكن وحدي من تصدع.. كان كثير من أصدقائك وأقربائك غير مصدق، فلم نكن لنتصور أن الصديق الغالي "علي العنيزان" سيكون فقيدنا.. وعلى هذا النحو المباغت الفاجع.. فقد قضى الفقيد نحبه في حادث مروع.
كان "أبو راكان" إنسانا مملوءا بالحياة وكانت الحياة مملوءة به.. شفافا مرحا كغيمة.. يكتظ قلبه بالنبل والصدق والطيبة.. منحازا في حسه الكوني، إنما منخرطا للعظم في عشقه لوطنه وعروبته.. وكم كان مثابرا على ردم هوة اليأس بأكوام النجوم... لكنه – واحسرتاه – قد رحل.. وصار قدرنا أن نقنع فقط بأن يطل علينا من شرفات الحلم والذاكرة، وأن نتحسس وقعه على خافت النبض.. فقد ترك فينا "علي" أجمل ما فيه.. ضحكته النهارية وكلماته الموفورة بالعنفوان "كأعناق الجياد النافرة"..
ويا "أبا راكان" إن الدموع التي هطلت غزارا ولا تزال جزعا على فراقك ستكفكف.. لكن هيهات لدموع الروح أن تكفكف "يا علي".. سيظل وحش الفراق.. رابضا في الأعماق.. لا يفترس.. إنما ينفث فينا مرارة فقدك، في كل لحظة يهجس بك الذهن.. وكلما التقى ربعك أو أهلك.. وستظل تملأ المكان، نراك قريبا قريبا لكن ــ ويا للحسرة ــ قصيا قصيا!!
وحتما لن يقاس فاجع فقدنا لك نحن أصدقاءك ومن عرفوك بفقد من ثكلوك حقا.. زوجتك وأبناؤك وأسرتك.. بل إني أخال ملابسك وكتبك وأوراقك وأقلامك، ومكتبك وحاسوبك وهاتفك المحمول وزوايا بيتك وتحفك واستراحتك ومقود سيارتك.. والأرائك التي جلست عليها والستائر التي لامستها والشوارع والأزقة التي مررت بها.. كلها في انتظار أن تراك.. وأجزم أنها ترهف السمع لخطاك.. أما وقد أسلمت نفسها لمر غيابك فإني أكاد أسمعها تنتحب بصمت عليك، ومثلها نحن أيضا "يا علي" سنرضخ للنحيب الصامت.. ولا عجب في أن أصبح حالنا معك مثل حال "متمم بن نويرة" وهو يشهق من الوريد إلى الوريد لوعة على فراق أخيه مالك
فلما تفرقنا، كأني ومالكا
لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
ثم راح يبكي على كل قبر يراه.. صارخا في وجوه من كانوا يلومونه على ذلك: "دعوني.. فهذا كله قبر مالك"... ألا ما أرهب الموت.. وما أفدحه وأقساه "يا علي".. حين لا يرى الفاقد في الأرض كلها إلا أنها قبر للفقيد"!!".. رحمك الله يا "أبا راكان" رحمة واسعة.

إنشرها