Author

طوق النجاة الاقتصادي

|
مستشار اقتصادي

يقال أحيانا، "إذا لديك مشكلة ما فحاول أن تتعامل بما هو أكبر منها لكي تصغر المشكلة الراهنة". وهكذا نحن مع المشكل الاقتصادي. لدينا إشكال تنموي أوسع من الإشكال الاقتصادي لكنه متداخل معه إلى حد التطابق أحيانا، لكنه مختلف جوهريا في الإطار وعوامل النجاح والعلاقة بالمفاهيم السائدة، حيث إن المفاهيم تحدد أنماط التصرفات. حين نقرأ عن ونتأمل تجارب عديد من الدول ما نجح منها وما فشل، نجد أن محاور التعامل في مجملها ليست اقتصادية على الأقل على المستوى الفني والتحليلي، كما يفهمه أغلب الاقتصاديين والاستشاريين. التطابق يسمح بالتوظيف الفني والتحليلي وكأنه حجر الزاوية الكافي للتعامل مع التحدي التنموي والإشكال الاقتصادي، لكن قد يكون مكلفا واختصارا غير مجدٍ. الأدهى أن التركيز على الاقتصادي يظهر وكأنه تفادٍ للتنموي وبالتالي نخسر الاثنين. هناك عدة محاور لا تظهر غالبا في الحديث عن السياسة الاقتصادية لكنها قد تكون أهم، هذه في الغالب لا تقبل القياس بسهولة لكنها تحتاج إلى القبول والإيضاح والتكريس كي تؤدي دورها بما يخدم الأهداف الاقتصادية.
أول هذه المحاور، دور القدوة في المجتمع، هذا أحد المحاور التي لن تجد مقاومة من أحد، بل إجماع كامل، والكل لديه قدوة ويتوق إلى مزيد. عدم وجود القدوة الحسنة يترك فرصة للأسوأ فينا، فوجود القدوة الحسنة يوجد استقطابا إيجابيا في المجتمع ويكشف المقصر ويرفع مستوى القيم. مستوى القيم يقود إلى محور آخر هو منظومة التصرفات المدنية في المجتمع، التي بدورها توجد قاعدة مجتمعية للتعاون، لأنها أساس الثقة بالأنظمة والمؤسسات، فبدون تعاون يصعب إنجاز أي شيء تقريبا، بل إن المجتمعات الأعلى في مستوى الثقة عادة أكثر نجاحا، بل إن منظومة التصرفات المدنية تقلل التكاليف الاقتصادية، فالشارع النظيف والمدينة النظيفة قوة إيجابية ماليا وبيئيا. التصرفات المدنية تسهل تقوية محور آخر ألا وهو مركزية دور المؤسسات والتعامل المحسوب مع استحقاقاتها مثل المنافسة والنجاح والفشل، "لاحظ دور الشركات الصغيرة والمتوسطة"، وتقليل تكلفة حماية الحقوق ومحاربة الفساد. لا يختلف الاقتصاديون حول دور هذه المؤسسات في تحقيق النجاح الاقتصادي، لكن ما تختلف حوله الدول هو درجة التركيز والدقة في انسجام الأهداف وأصالة الربط بالأهداف الاقتصادية.
بعض المحاور تخرج قليلا من الدور العام، لكنها لا تقل أهمية وترتبط بالشأن العام عضويا، خاصة في تأسيس منظومة حوافز مقبولة مجتمعيا.
أحد هذه المحاور يدور حول أنماط التصرفات المالية للأفراد، مثل التوفير والحرص على المال والتحكم في النزعات الاستهلاكية، التوفير مصدر مالي مستدام، توفير المال قاعدة للاستثمار في كل مجتمع، فمن لا يوفر لا يستطيع الاستثمار ومن لا يستثمر لا ينمو. المحور الآخر يأتي في مدى حرص العائلة "الذرية" على التعليم، فمهما عملت الحكومات فلن تستطيع النفاذ إلى بيوتنا وتقنين الاهتمام والأمانة في الجهود.
انتقال بلد من مدار إلى آخر لا يحدث بسبب سياسات مالية أو اقتصادية بعيدا عن تحريك الفعاليات الفردية والجمعية والغوص في رصد طبيعة التغيرات المجتمعية. الركون إلى متغيرات اقتصادية كلية يسمح بتجاوز الأهم إلى حين فقط من ناحية ويعري العلاقة بين المؤسسي والعملي من ناحية أخرى. لكن إهمال الاقتصاد الفني والتحليلي في الرصد وتوجيه وتعديل منظومة التصرفات مهرب آخر لا يقل خطرا. أرى أن هذه المحاور مثل أطناب الخيمة، إذ يصبح مستوى أهمية محتوى الخيمة مهمّا بقدر درجة سلامة أطنابها. الهدف المرحلي أن تختزل منظومة حوافز تساعد في آلية الحراك عامة والاقتصادي خاصة.
تقوم المملكة من خلال "الرؤية" وقيادة ولي العهد الشجاعة بالتعامل مع كل هذه المحاور والأبعاد، لكن يبقى أن نرفع درجة الرصد والدقة، خاصة في ميدان التصرفات.

إنشرها