FINANCIAL TIMES

نجاح المدن رهن استيعاب الغني والفقير

نجاح المدن رهن استيعاب الغني والفقير

خلال معظم القرن العشرين، كان بإمكان المحامي وعامل النظافة في الجنوب الأمريكي تعزيز دخله من خلال الانتقال إلى منطقة نيويورك، حتى بعد احتساب تكاليف السكن.
هذه الأيام، ينطبق هذا على المحامي فحسب. أصبح السكن الآن مكلفا للغاية في أنحاء نيويورك، إلى درجة أنه بعد دفع الإيجار وقسط القرض العقاري، سينتهي الأمر بعامل النظافة إلى أن يكون أقل دخلا.
هذه الحقيقة – المأخوذة من بحث أكاديمي نشر في السنة الماضية – تشير إلى مشكلة أكبر. كثير من الوظائف المستقبلية ذات المهارات المتدنية ستنشأ في مدن ناجحة مثل نيويورك.
من الصعب بشكل متزايد أن تعيش حياة كريمة في إحدى المدن المذكورة إذا كان راتبك قليلا. وهذه ليست مشكلة لعامل النظافة فحسب، بل هي مشكلة للمحامي أيضاً، وللمدينة كذلك، وللاقتصاد نفسه.
المدن الكبيرة هي محركات للنمو: وهي محركات كبيرة للغاية إلى درجة أنها تتقدم على كل شيء آخر.
في أوروبا، تُظهِر الأبحاث الجديدة أن التباين بين المناطق الذي تراجع خلال الفترة من 1900 إلى 1980، وهو الوقت الذي كانت تتحول فيه المناطق الفقيرة نحو التصنيع، آخذ الآن في الازدياد.
فقدت أوروبا بعض الوظائف الصناعية لمصلحة البلدان النامية في العقود الأخيرة "وهذا أضر بأماكن مثل والونيا وويلز"، لكنها اكتسبت وظائف في التمويل والصناعات الإبداعية والتكنولوجيا "وهذا كان لمصلحة مدن مثل لندن وباريس".
ومنذ الأزمة المالية، توسعت حصة لندن من هذه "الصناعات المتقدمة القابلة للتداول" من 23 إلى 27 في المائة. بعض المدن الأخرى مثل مانشستر أبلت بلاء حسنا كذلك.
المصرفيون والمصممون والمبرمجون ليسوا وحدهم الفائزين. مؤسسة الأبحاث The Resolution Foundation توصلت إلى أنه مقابل كل عشر وظائف جديدة في هذه القطاعات في بريطانيا، تم إيجاد ست وظائف أخرى في الاقتصاد الأرحب: مثل البنائين ومصففي الشعر وسائقي سيارات الأجرة والسباكين وما إلى ذلك.
هؤلاء العاملون بحاجة إلى أن يعيشوا بالقرب من زبائنهم، لكن الطلب المتصاعد الذي غالبا ما يتعقد بسبب قواعد التخطيط، يدفع بتكاليف السكن إلى الأعلى في المدن المزدهرة. عمال النظافة في الجنوب الأمريكي ليسوا هم وحدهم من تضرر.
هناك ظاهرة أمريكية أرحب أُطلِق عليها "فرز المهارات": العمال من ذوي المهارات العالية ينتقلون إلى الأماكن ذات الدخل العالي، في حين إن العمال من ذوي المهارات المتدنية يغادرون تلك المناطق.
الخريطة الاجتماعية الاقتصادية لمدينة لندن انقلبت رأسا على عقب. الناس الفقراء الذين كانوا يعيشون في وسط المدينة انتقلوا إلى الأطراف.
توني تريفرز، الأستاذ الجامعي، يطلق على ذلك "تحول الفقر إلى الضواحي". أصحاب الدخول المتدنية يستخدمون المواصلات بشكل متزايد من أطراف لندن إلى وظائفهم في وسط المدينة.
هناك آلام متزايدة في مانشستر، حيث لم يتم بناء مساكن كثيرة بأسعار ميسورة من قبل شركات البناء في مركز المدينة المزدهر.
ربما تكون المشكلة قد طمست بفعل الهجرة الدولية. في لندن، العاملون من الاتحاد الأوروبي يباشرون رُبع أعمال الإنشاءات، وثُلث وظائف الفنادق، و12 في المائة من الوظائف في محال التجزئة.
العمل بأجر يسير في مدينة مكلفة ليس بالأمر السهل، لكنه ربما يكون أمرا مجديا في حال كنتَ تريد الدراسة أو تعلُّم الإنجليزية، أو لأن الخيارات الأخرى أسوأ من ذلك.
قبل سنتين أجريتُ مقابلة مع امرأة تعمل في تنظيف المكاتب في لندن بالحد الأدنى من الأجور. وقد استأجرت هي وزوجها غرفة في جنوب المدينة.
وهي تستيقظ كل يوم في الثالثة والنصف صباحا، وتستقل ثلاث حافلات للوصول إلى عملها، على مدى سبعة أيام في الأسبوع. وهي لا تستطيع أن تتحدث الإنجليزية، وتشعر بأنه ليس لديها خيارات أفضل.
لا علم لدينا حتى الآن بقواعد الهجرة في الاتحاد الأوروبي بعد "البريكست"، لكن إذا انخفض عدد المهاجرين من ذوي الدخل المتدني بشكل لا يستهان به، فإن الصدوع في اقتصاد لندن ستبدأ في الظهور.
سواءً كان هناك مهاجرون أو أناس من أهل البلد، فليس من الممكن وليس من الإنصاف أن نتوقع من العمال ذوي الدخل المتدني أن يعيشوا في حلقات هائلة حول المدن المزدهرة، وركوب المواصلات لقطع مسافات تتوسع باستمرار.
يعاني أصحاب العمل من أجل ملء الوظائف التي يمكن أن ترفع الأجور، لكن هذا لا يرجح له أن يكون كافيا.
يحتاج صناع السياسة إلى اتخاذ مداخلات شجاعة بشأن التخطيط، والبناء، والضرائب، من أجل تعزيز عرض المساكن.
السكن الميسور ليسن شيئا "يستحسن أن يكون لديك"، إنما هو أمر ضروري. ربما يشعر أصحاب المساكن بالقلق من أن هذا سيؤذي نوعا ما قيمة مساكنهم.
وهي ستتعرض للأذى أيضا حين تكون الشوارع مليئة بأكوام القمامة، وتخلو المستشفيات من عدد كاف من الموظفين، وتتسرب المياه من الأنابيب، وتقفل المتاجر.
إن كانت المدن لا تعمل إلا لمصلحة ذوي الدخول العالية، فمعنى ذلك أنها مدن فاشلة بالتأكيد.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES