Author

التحول الرقمي .. وآفاق المستقبل

|

عندما نقول "تحول" فهذا يعني أننا نريد أن نطرح أمرا يراد له "فعل"، وأن هذا الفعل يحتاج إلى وسيلة، وأنه يأتي من أجل تحقيق "هدف". والفعل في مسألة التحول هو تغيير كبير في الأمر المطروح؛ والوسيلة هي الأداة الممكنة لهذا التغيير؛ أما الهدف فهو التحسين ونقل الأمر من حالته الراهنة إلى حالة أفضل. وإضافة إلى الفعل والأداة والهدف، لا بد من وجود جهة تنفذ الفعل، وجهة تستفيد من معطياته، ناهيك بالطبع عن مجال الأمر المطروح للتحول. ولعله لا بد من الإشارة هنا إلى أن التحول في استهدافه للأفضل قد يواجه مصاعب لا بد من التنبه لها كي يكون التحول ناجحا ومحققا لطموحاته المنشودة.
ونأتي، على أساس ما سبق، إلى "التحول الرقمي": إنه تحول وسيلته "التقنية الرقمية" وتجددها المستمر. والأمر المطروح لهذا التحول يتمتع بمجال واسع يغطي مختلف نواحي "حياة الإنسان"، والهدف هو "حياة أفضل" وأكثر رفاهية. فعل التحول هنا هو تغيير الحالة الراهنة لحياة الإنسان إلى حالة أفضل، ليس هذا فحسب، بل الاستمرار في التغيير نحو الأفضل باستخدام التطور المتنامي للتقنية الرقمية. وعلى ذلك فالجهة المستفيدة هي الإنسان أينما كان. أما الجهة صاحبة الفعل، والمسؤولة عن التحول الرقمي، فهي أيضا الإنسان على جميع المستويات التي يسهم فيها: كمبتكر ومطور في المؤسسات التقنية؛ وكفرد يستخدم التقنية ويستفيد منها في حياته الشخصية؛ وكموظف في المؤسسات التي تستخدمها، وكمواطن ومسؤول في المدن الذكية، بل في الأوطان الذكية، وصولا إلى مستوى العالم بأسره وجعله، عبر التقنية الرقمية، ذكيا ومتطورا دون انقطاع.
وليس التحول الرقمي بالأمر الجديد، لكنه يتسم بالتجدد. فالتقنية الرقمية، محرك التحول الرقمي، بدأت في القرن الـ 19 للميلاد بالاتصالات السلكية والاتصالات اللاسلكية. وانطلقت في القرن الـ 20 بالصمام الإلكتروني، والترانزستور. وأنجبت بعد ذلك الحاسوب وعززت تطوره؛ وصولا إلى الإنترنت والجوال الذكي، وربط أطراف العالم بأطرافه.
وانطلقت أيضا إلى التطبيقات والاستخدامات غير المحدودة التي نتجت عن كل ذلك على كل من المستوى الشخصي، ومستوى المؤسسات والشركات في مختلف المجالات، إضافة إلى الحكومات، والعالم بأسره، دون حدود.
تقدم التقنية الرقمية حاليا معطيات جديدة ومتجددة من أجل مزيد من التحول الرقمي. ويوصف التجدد في التقنية الرقمية بأنه متسارع، أو "أسي" Exponential ولعل أبرز تعبير عن هذا الأمر، الذي أثبتت السنون صحته، ما يعرف "بقانون موور" Moore’s Law الذي توقع عام 1965 زيادة متسارعة في قدرة المعالجات الحاسوبية، مع تناقص مستمر في تكاليفها. ولا شك أن كبار السن قد شهدوا كثيرا من ذلك؛ وأن صغار السن يشهدون وسيشهدون ما هو أكثر من ذلك. وتشمل المعطيات الحديثة: "إنترنت الأشياء؛ والحوسبة السحابية؛ وتحليل البيانات الكبرى؛ والذكاء الاصطناعي، وما يتضمن من علوم تعلم الآلة وأنظمة الروبوت وتطبيقاتها المختلفة". ومن المعطيات أيضا وسائل الأمن السيبراني التي تهتم بحماية أمن العمل الرقمي. وقد تحدثنا عن مختلف هذه المعطيات في مقالات سابقة يستضيفها مشكورا موقع عزيزتنا "الاقتصادية".
تكمن أهمية التحول الرقمي في قدرته على الإسهام في حل مشكلات الإنسان من ناحية، وفي تفعيل التنمية وتعزيز استدامتها من ناحية ثانية. ويشمل ذلك جوانب: اقتصادية، واجتماعية، وبيئية، بل ثقافية أيضا؛ وتأتي التقنية لتكون عاملا مساعدا ومحفزا في كل هذه الجوانب. ولعلنا في تقديم مثال مهم على ذلك نعود إلى أهداف التنمية المستدامة SDG الـ 17 لعام 2030، ومستهدفاتها Targets التي أعلنتها الأمم المتحدة عام 2015. فقد قام تقرير صادر عام 2017، عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD موضوعه "القضايا الرئيسة للتحول الرقمي في الدول العشرين G20"، برصد وتحديد دور التقنية الرقمية في الإسهام في تحقيق جميع الأهداف الـ17. وهكذا، يكون التحول الذي تقوده التقنية شاملا جميع توجهات التنمية المستدامة المنشودة على مستوى العالم.
وفي إطار مشابه بشأن المجالات الرئيسة للتحول الرقمي، تحدث التقرير السنوي للاتحاد الدولي للاتصالات ITU حول قياس مجتمع المعلومات لعام 2017 عن المجالات الرئيسة لتطبيقات المعطيات الحديثة للتقنية الرقمية، وأورد في ذلك تسعة مجالات رئيسة. وتشمل هذه المجالات: تمكين التوسع الشبكي والوصول إلى مزيد من الناس أينما كانوا؛ والنقل والتموين؛ والصناعة؛ والزراعة؛ والطاقة؛ والبيئة؛ والصحة؛ والمنازل؛ وحركة المرور بما في ذلك قيادة السيارة آليا. ولعله يمكن إضافة التعليم أيضا، وقد تحدثنا في مقالات سابقة عن "عولمة التعليم الجديدة عبر التقنية الرقمية". وقد تم في المملكة عام 2017، تشكيل لجنة للتحول الرقمي على المستوى الوطني تضم مسؤولين من مختلف المجالات.
وتأكيدا على ما سبق، تجدر الإشارة إلى أن التوجه في العالم نحو بناء المدن الذكية التي تتمتع بكفاءة وفاعلية في الأداء، وتعطي رفاهية للإنسان، وتسهم في التنمية المستدامة، يستند إلى التقنية الرقمية. وتلتزم الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض في الوقت الحاضر بهذا التوجه. وهناك توصيات على المستوى الدولي تحدد متطلباته أصدرتها كل من المنظمة الدولية للمواصفات المعيارية ISO والاتحاد الدولي للاتصالات ITU. وقد تحدثنا عن هذا الموضوع في مقال سابق. ويرجح أن نرى مثل هذه التوصيات في المستقبل ليس للمدن الذكية فقط، بل للأوطان الذكية والعالم الذكي أيضا.
تشهد التقنية الرقمية تطورا متسارعا، ربما يفوق في تسارعه ما شهدته في تطورها السابق حتى الآن. وهي لا تكتفي بالربط الشبكي وتبادل المعلومات بين الناس والمؤسسات والدول، بل تقدم مزيدا من الإمكانات التي تشمل الربط الشبكي للأشياء، وتنفيذ عمليات إدراكية معقدة وتحليل للمعلومات، إضافة إلى توجيه الآلات الميكانيكية لأداء مهمات مختلفة بدقة غير مسبوقة. وهي في ذلك تغزو مجالات الحياة كافة، تقدم الكفاءة والفاعلية والرفاهية، وتوسع دائرة استيعاب الناس وشراكتهم فيها، لكنها، إضافة إلى ذلك، لا تخلو من تحديات كثيرة تشمل سوق العمل والمنافسة الحادة ليس على المستوى الوطني فقط، بل على مستوى العالم بأسره. وعلينا أن نستجيب لكل ذلك ليس فقط بمنطق الاستجابة للفعل، بل بمنطق الفعل ذاته أيضا.

إنشرها