ثقافة وفنون

أقنعة اللغة .. لا تكذب

أقنعة اللغة .. لا تكذب

أقنعة اللغة .. لا تكذب

"إنّ الكون كلّه يحتمل أن يكون رمزا"
كارل يونج

يبحث كتاب اللغة المقنّعة؛ المواجهات الرمزية بين النص والسلطة، للكاتب الدكتور ناظم عودة في ميكانزمات لسانية وفنية تتسم بها اللغة المقنّعة. ويعالج العوامل السياسية التي كانت سببا مباشرا في نشأة أشكال شعريّة مقنّعة في الأدب العراقي. فاللغة الشعرية، على امتداد تاريخ القصيدة العراقية، لم تكن يوما أداةً حياديةً، وإنما هي جزء من مشكلة الاستبداد، وهي أيضا طريقة من طرائق الدفاع عن حقّ الحرية.
يقصد المؤلف باللغة المقنّعة ترميز اللغة الشعرية الذي يظهر حيثما وُجدت المراقبة، إذْ تكون لغة الخطاب ميدانا لنشاطين: أحدهما نشاط الترميز؛ أي نظام الشفرة المقنّعة. ونشاط الفهم أو إدراك شفرة ذلك الترميز، وهو ما تقوم به عين المراقبة؛ أي عين السلطة. وهذان النشاطان يحركهما غرض واحد: الحفاظ على النوع؛ نوع السلطة ونوع الخطاب. وهكذا تكون العملية موسومة بطابع الصراع؛ كل منهما يحتال على الآخر، ويراقب الآخر، كلاهما يتخفّى ويتقنّع ويحترز فيما سيخلفه هذا الصراع من كلمات. وهذه هي سنة الأدب على مرّ العصور. وتحترف اللغة المقنّعة صناعة الغموض قناعا واقيا من بطش السلطة، وتشكل منها أقنعة للذات وأقنعة للرومانسية. والمؤلف في هذا الكتاب يصغي بإنصات إلى هذه اللغة، ثم يفكك تراكيب القصيدة ليكشف قناع اللغة عن المعنى الكامن خلف الكلمات. مستعينا بالسياق التاريخي لكل عمل أدبي.
يكشف لنا الكتاب بالشواهد الشعرية عن سر كثافة اللغة المقنّعة في الشعر العراقي منذ السبعينيات، وتحوّل اللغة الشعرية من لغة مؤطّرة بسياقات مرجعية يتفاعل معها القارئ على النحو الذي يتجلى فيه شعر الحداثة الأولى، إلى سياقات تبت هذه الجذور الممتدة عبر أجيال شعرية سابقة. وقد مرّت اللغة المقنّعة بتحولات تاريخية في الشكل واللغة والموسيقى والمعنى. وكانت هذه التحولات مرتبطة بشكل مباشر بالحاجة المستمرة إلى حماية اللغة الشعرية لذاتها من قمع السلطة.
ويصف المؤلف تفاعل الشاعر العراقي مع واقعه حيث يصبح الشعر مجالا يتعدى حالة الاكتفاء بالتصوير الخارجي للواقع، ويتعدى لحظة لذة الشعور بالكتابة، إلى حقن الشعر بمضادات حيوية ضد فيروسات الخضوع لهذا الواقع. ويحقن الشعر بما يؤهله ليقود ثورة عارمة ضد السلطات الضالعة في صناعة هذا الواقع المأساوي.
وإذا ما نظرنا إلى النص من ناحية العلاقة بالواقع والمجتمع بوصفهما إفرازا سياسيا، هو عملية تمثيل لساني للتغيرات التي تجري فيهما. وهذه التغيرات فعل سياسي موطّر بخلفية إيديولوجية تنشط في مرحلة تاريخية معينة لإحداث التغيير في القيم الاجتماعية والثقافية وإعادة تشكيلها بما يتلاءم مع منطلقاتها الفكرية. والنص المنشق عن تلك المنطلقات هو فعل امتصاص لما يحدث في المجتمع من تغييرات يمثّلها لسانيا في جميع مستويات اللغة؛ تمثيلا يؤكد ذلك الانشقاق ويؤكد حضور الإنسان بوصفه نتاجا للفعل السياسي. ويصوّر النص طريقةً للسلطة في فرض هيمنتها وإكراه المجتمع على الانتماء، وفي ذات التوقيت يصور الإنسان طريقةً للتمرد والمقاومة والكفاح ضد كل أشكال الفقر والقمع والاستبداد ومصادرة الحريات. فالنص يعيد إنتاج الواقع وفق رؤية ترصد عذابات الإنسان ومعاناته وكفاحه ومحاولاته للانعتاق من الواقع الذي أوجدته السلطة.
إن النصوص الشعرية التي كُتبت في سنوات الحرب، عبّرت عن نزعة وجدانية مستفزة بسبب الحرب التي خلفت كثيرا من الضحايا. ولذلك كانت النصوص التي كُتبت في تلك السنوات تتضمن شحنة عاطفية تدميرية، وكانت اللغة المقنّعة تقوم بعملية تمثيل لكل ما يقوم به المجتمع من أفعال التهكم والسخرية من الواقع الذي خلقته السُلطة. وتصوير حركة الأحداث في الواقع وما تنطوي عليه من حبكة ساخرة من الأوضاع السائدة عبر تغيير وظائف اللغة وتدمير العلاقات التركيبية.
يصل المؤلف من خلال دراسته لنماذج من الشعر العراقي الذي كُتب في المرحلة الديكتاتورية إلى أنه يتسم بنزعة تدميرية تعبّر عن انفعال قوي نتيجة للوضع النفسي الذي تضغط فيه الحرب والسلطة القمعية، وما ينجم عن ذلك الضغط من انفجار عاطفي يصرّفه الشاعر في اللغة لتكون ميدانا للرفض. وتغيير الوظائف والعلامات اللغوية بطريقة تشبه اللعب العبثي على نحو ما قال سبتي في قصيدته (مكيدة المصائر): "أتشبّه باللغز كي أقوى على الكلام". إذْ يستثمر الشاعر هنا قدرة اللغة على التمويه والإيحاء؛ وإن كانت غير مستعصية على الانكشاف أمام آليات القراءة المنسلّة من السياق الثقافي والسياسي ذاته.
إن تأمل النسيج اللغوي للشعر العراقي الذي تزامن مع الحرب، يمنحنا انطباعا بأن اللغة ينتابها الخوف والقلق على نحو دائم مثلما ينتاب الإنسان، ولذلك فهي تنبثق بصورة شبيهة لسلوكيات الخوف والقلق. إنها ولادة جديدة بعيدا عن الحبل السري الذي يربطها بعالم الدلالات القديمة. فهي تنطوي أحيانا على إلماحات تتضمنها بعض الجمل التعبيرية.
وأخيرا؛ يمثّل الكتاب دراسة تحليلية عميقة للخطاب الأدبي العراقي تكشف عن الصراع السياسي والإيديولوجي الذي تمخّض منه هذا الخطاب. ويفك شفرات هذه النصوص حين يقف بكل نص في مواجهة مع السلطة والحرب والموت. كل ذلك يعبر عنه المؤلف بلغة علمية وشعرية في ذات الوقت.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون