ثقافة وفنون

ستيفين هوكينج: انظر إلى النجوم وليس إلى قدميك

ستيفين هوكينج: انظر إلى النجوم وليس إلى قدميك

إذا كان العالم يدِين بكثير لألبرت أينشتاين في النصف الأول من القرن العشرين، فإنه يدِين بكثير لستيفن هوكينغ في النصف الثاني منه، وفي الربع الأول من القرن الحالي. وقد لا نبالغ في القول إن دين هذا الأخير أكبر من سابقه، إذا ما استحضرنا المعاناة المبكرة لرجل مع المرض الذي حوله إلى "معجزة طبيّة"، إذ عاش 54 عاما بعدما توقّع الأطباء موته إثر إصابته، عام 1963، بالمرض العصبي الحركي (مرض العصبون الحركي) حين كان في سن 21 عاما.
صحيح أن لعنة الضعف البدني حلّت عليه مبكرا، لكنه في المقابل تميّز بنعمة الذكاء الخارق. وعلى الرغم من كونه سجين الكرسي المتحرك، فقد جاب الكون بعقله مؤكدا أنه تجاوز العبقرية. لدرجة نال فيها الرجل شهرة منقطعة النظير، ضاهت شهرة نجوم السينما، بالرغم من كون تخصصه هو علم الفيزياء، فما أن يظهر صوته الآلي المميز، مُطلقا دعاباته اللاذعة في أي مكان، حتى ينهال الجمهور بالتصفيق والإعجاب.
خصوصا، وأن الراحل لم يكتف بالمحاضرات العلمية الدقيقة والمتخصصة، وإنما اشتغل على مشروع لنشر العلوم الذي لقي نجاحا شعبيا فائقا. وهكذا دخلت مصطلحات "الثقوب السوداء" و"الانفجار الكبير" الثقافة الشعبية، وبدوره اندفع هوكينغ معها ليدخل كل منزل بكتبه ولقاءاته، وحتى بالسينما من خلال الوثائق والأفلام التي أُنجزت عن حياته.
يعد الراحل أن حياته انتهت عندما كان في الـ22. ولذلك، فإن أي شيء آخر تمنحه له الحياة بعدها يعده ميزة كبيرة، لذا يرى أن الغضب من الإعاقة مجرد مضيعة للوقت. وبدلا من الغضب المتجدد كل يوم، ينظر إلى كل يوم جديد كإمكانية تتاح له، حتى لو انخفض سقف هذه الإمكانية إلى حد عدم قدرته على ابتلاع الماء، وإلى حد أن يتحدّث بتحريك عضلات وجهه على برنامج خاص مصمم لهذا الغرض.
اقتنع هوكينغ أن حياته المعجزة ستكون بلا جدوى ما لم "يترك شيئا للجيل القادم من بعده". ما جعله يعمل بدأب وأمل؛ حتى اليوم الأخير من رحيله الهادئ قبل أيام، وكأنه سيعيش أبدا. خيار لم تؤثر في معتقداته الإيمانية التي يفترض أن تعدم لديه شيئا بعد الموت ليدفعه إلى العمل في حياته، آملا بالأفضل في الآخرة.
عبَّر الراحل عن رؤيته للحياة، قبل ثماني سنوات في مقابلة على قناة أمريكية، بقوله: «أولا، تذكر أن تنظر إلى النجوم، وليس إلى قدميك. ثانيا، لا تتخل أبدا عن العمل، فالعمل يعطي المعنى والغاية للحياة، وبدونهما الحياة فارغة. ثالثا، إذا كنت محظوظا بما فيه الكفاية لإيجاد الحب، تذكّر دوما أنه موجود ولا ترمِه بعيدا».
اختار هوكينغ التفكير بدلا عنا، وجعل من الكون سحرا نفككه شيئا تدريجيا، في سياق المعرفة التي يُفترض أن تصبح إلزامية في وقت ما من تاريخنا البشري. بتنا نعلم أن الكون غابة من التعقيدات الرياضية، لكنه في ذات الوقت في غاية البساطة إن شئنا. وجودنا بحدّ ذاته متأت من سياق كوني نشأ منذ نحو 13.7 مليار سنة، ووصولنا إلى هذه المرحلة من الزمن، في ظلّ تقدم معرفي هائل، لم يكن ليحلم به أحد، ولا حتى أي إنسان في الماضي، ما يفسح المجال أمامنا بإزاء تسارع علمي كبير، يشرّع الأبواب لنا لغزو الفضاء في عقود لاحقة.
ينتصر أب الفيزياء المعاصرة إلى هذه الفكرة، ما يجعله يدعو إلى التركيز على المشترك في حياة الإنسانية، ويحث على كيفية تدبير علاقاتنا البشرية، فبمعزل عن الأعراق والأديان والثقافات والقوميات، هناك أمور تجمعنا نحن البشر.
يعد هوكينغ أن البديهيات بين بني البشر عديدة، فجميعنا نأكل ونشرب وننام، ونستنشق الهواء نفسه، ونسبح في المياه نفسها. جميعنا نتكيّف قدر الإمكان في مختلف البيئات الطبيعية. جميعنا يخترع إشارات تعارفية مع الآخر. يُمكن جمع أشخاص من الأركان الأربعة للعالم في جزيرة مهجورة، وسيمكنهم التواصل بلا شك، ولو لم يعلم أي منهم لغة الآخر. وحدها الحواجز التي نصنعها تصبح مدخلا للدمار، متى تحوّلت من حواجز تنظيمية لمسار الحياة في المجتمعات إلى أسس ومنطلقات لتدمير الآخر.
بعيدا عن حقل العلوم الحقة، كانت للراحل مواقف سياسية نبيلة من ضمنها رفضه للعدوان الأمريكي على العراق، معتبرا أن مشاركة المملكة المتحدة فيه "جريمة حرب". وقد قرأ بنفسه بيانا مشهورا ضدها، يتذكر فيه الجميع مزحته حين قال: "إن جهازه غير مصمم لقراءة الأسماء العربية". وتكرر ذات الموقف قبل سنوات حين وجه ضربة قاسية لإسرائيل برفضه دعوة لحضور مؤتمر أكاديمي إسرائيلي، وقال إن ذلك بناء على طلب من أكاديميين فلسطينيين لنصرتهم في حملة المقاطعة الأكاديمية.
أثارت وفاة الراحل في العالم العربي سجالا كبيرا ليس فيما طرحه من أفكار ونظريات حول في الفيزياء الحديثة فتحت آفاقا واسعة، وزعزعت ما اعتبر يقينيات حتى الأمس القريب، ولا بغرض مناقشة مواقفه الإنسانية النبيلة التي تكررت في عدة مواقف حين التزم كثير الصمت، ولا للتأمل في حياته الشخصية الخاصة التي وصفت طبيا بأنها معجزة بكل المقاييس. لا لم يهتم العرب بأي شيء منها، بل خاضوا في معتقدات الرجل الإيمانية؛ وانقسموا بين شامت بالرجل وساخر منه ومستهزئ بأفكاره... وفي أسلوب يدل على العجز بدأت التعليقات على وفاته بالتركيز على أنه ملحد، وأن وفاته ليست إلا ليلقى مصيره في النار جزاء على إنكاره لحقائق هي أشد قوة ويقينا من نظرياته التي توصل إليها، فيما مسار حياته وحده ألف درس وعبرة لنا جمعيا، فهل من متعظ.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون