FINANCIAL TIMES

بقلم التصحيح .. باول يرسم خريطة الاقتصاد الأمريكي

بقلم التصحيح .. باول يرسم خريطة الاقتصاد الأمريكي

قدم جاي باول، الرئيس الجديد لمجلس الاحتياطي الفيدرالي نفسه إلى الأسواق، لأول مرة، عقب استخلاف الرئيس ترمب له محل سلفته جانيت يليين.
على أن ما يبدو هو أن الأسواق لم يرُق لها ما سمعته. إذا حكمنا من خلال أسعار العقود الآجلة للأموال الفيدرالية (ودائع المصارف لدى البنك المركزي)، فإن احتمالات حصول ما لا يقل عن ثلاث زيادات في أسعار الفائدة لهذا العام وما لا يقل عن أربع، كلها قد ارتفعت لتصل إلى مستويات عالية جديدة.
في كلتا الحالتين، جاء الارتفاع السابق عند إغلاق التداول في الحادي والثلاثين من كانون الثاني (يناير) الماضي، في اليوم الذي عُقد فيه آخر اجتماع للجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة "فومك".
منذ ذلك الحين، بالطبع، عانت أسواق الأسهم من عملية تصحيح مفاجئة وقاسية، التي خضعت إلى حد كبير إلى عملية تصحيح من قبل.
في الوقت الذي كانت تجري فيه عملية التصحيح، كان الرهان يتضمن أنه سيكون هنالك "خيار البيع من باول" (أي وجود خطر أخلاقي من ارتفاع الرغبة في المجازفة عن شعور المستثمر بأنه مؤَمَّن).
بمعنى آخر، قد يجفل مجلس الاحتياطي الفيدرالي في ظل الرئيس الجديد، ولن تكون لديه الشجاعة الكافية لمواصلة إجراءات زيادة أسعار الفائدة، فيما لو تعرضت أسواق الأسهم للاضطراب.
حتى يوم الثلاثاء قبل الماضي، تعوّد السوق على التفكير في أن "الاحتياطي الفيدرالي" بقيادة باول سيواصل إجراءات رفع أسعار الفائدة، حتى وإن كان هذا يعني انخفاضا في أسعار الأسهم.
الانخفاض الحاد في أسعار الأسهم تمكن بالكاد من تعديل النتيجة التي توصلت إليها سوق العقود الآجلة للأموال الفيدرالية، وتمكن قليلا من خفض الحركة في عائدات سندات الخزانة لأجل عشر سنوات، فعادت مرة أخرى لتصل إلى مستوى أعلى من 2.9 في المائة.
ما الذي قاله باول ليحفز عملية إعادة التقييم المذكورة؟ لم تقم الأسواق بأي تحرك معين بعد أن تم نشر شهادته، قبيل جلسة الاستماع.
بدلا من ذلك، يرى إجماع الآراء، الذي أعتقد بأنه صحيح، أن الدافع الذي جعل الأسواق تتحرك جاء مبكرا في جلسة الاستجواب التي خضع لها في مجلس النواب.
فيما يلي ما قاله، مع التركيز على بعض الكلمات من وكالة "بلومبيرج":
فُهِم هذا، بشكل معقول، على أنه يبين أنه في تقدير باول فإن الحجة الداعمة لحصول أربع زيادات في الأسعار، بدلا من ثلاث - الاختيار الوسيط في المرة الأخيرة التي نشر فيها مجلس الاحتياطي الفيدرالي الرسم البياني الإحصائي لنقاط البينات، وذلك في كانون الأول (ديسمبر) الماضي - زادت خلال الشهرين الماضيين.
وقد أظهرت درجة من التشدد تجاوزت قليلا الحد الأدنى الذي كان يتعين عليه إظهاره للحفاظ على مصداقيته.
الشيء الذي لم تفعله هو إظهار أي تغيير في "دالة رد فعله" عندما يتعلق الأمر بالجيَشان في سوق الأسهم.
رد الفعل الكبير في سوق الأسهم، وفي الاحتمالات الضمنية المترتبة بشأن الزيادات في أسعار الفائدة، تخبرنا بمزيد حول دالة رد فعل السوق أكثر مما تخبرنا حول دالة رد فعل مجلس الاحتياطي الفيدرالي.
احتفظت السوق باعتقاد يدل على الاستخفاف (ولربما كان واقعياً) بأنه عندما يصبح الموقف حرجا، لن يرفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة إن كان ذلك سوف يعيق سوق الأسهم، أو يهدد بحصول أي نوع من الجيشان. هذا الاعتقاد يتعرض الآن للطعن.
الجدل المتعلق بما إذا كان مجلس الاحتياطي الفيدرالي، وكثير من الجهات التنظيمية الأخرى في القطاعين القانوني والمالي، كانت مستكينة فوق الحد خلال وبعد الأزمة، بدأ منذ نحو عقد من الزمن حتى الآن، ومما لا شك فيه أنه سيستمر لعقود عديدة مقبلة.
تمكن القطاع المالي من الإفلات بتغييرات بسيطة كانت أقل من تلك التي ظن كثير منا أنها لازمة وضرورية إلى حد كبير، بسبب خوف المنظمين من تغيير الأمور كثيرا وزعزعتها أكثر من اللازم، والتعجيل بحصول أزمة أخرى.
في حالة الاحتياطي الفيدرالي، يمكن القول إن هذه الحالة المؤسفة استمرت منذ أن قرر مجلس الاحتياطي الفيدرالي تحت إدارة جرينسبان، تنسيق عملية إنقاذ ومن ثم تخفيض أسعار الفائدة في أعقاب الانهيار الذي حصل في صندوق التحوط لونج تيرم كابيتال مانجمنت في عام 1998. لذلك، من المعقول تماما أن يرى الناس أن ذلك سيستمر.
جانيت ييلين، بأسلوبها الدقيق وغير المباشر، كانت قد بدأت بالفعل في الابتعاد عن ذلك، بحيث خفضت بشكل نشط الميزانية العمومية لمجلس الاحتياطي الفيدرالي ورفعت أسعار الفائدة.
من نواح كثيرة، باول هو صفحة بيضاء فارغة عندما يتعلق الأمر بالسياسة النقدية، على الرغم من تاريخه الطويل كمصرفي ومسؤول رسمي في وزارة الخزانة.
ويبدو أن كثيرين افترضوا بأن هذا من الناحية العملية سوف يجعله يرضخ لمراعاة جوانب القلق لدى المصرفيين والمستثمرين، عند ظهور أول بادرة من المتاعب. ربما يتبين لاحقا أن هذه الفكرة حقيقية، لكنه شكك في مثل هذه الطريقة من التفكير يوم الثلاثاء قبل الماضي.
جين إيرجاس، من وكالة تايجرِس فاينانشيال بارتنرز، اقترحت التآلف معه قياسا على ونستون تشرتشل وكليمنت أتلي، السياسيين البريطانيين العظيمين من اليمين واليسار، اللذين حافظا على تحالف بينهما طوال الحرب العالمية الثانية.
كان مجلس الاحتياطي الفيدرالي في تحالف مع الأسواق منذ الأزمة المالية، يشبه التحالف خلال الحرب، وترى السوق أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي لن يجرؤ على الإخلال بالوضع الراهن. "باول يرى أنه يستطيع أن يعود إلى الأعمال بالطريقة المعتادة، والأسواق تشعر باستغراب شديد،" على حد قول إيرجاس.
جين قدم أيضا الفكرة الساحرة التي تقول إن الجرعة الأخيرة من جيشان السوق ربما تكون قد جعلت زيادة أسعار الفائدة أكثر احتمالا وليس أقل احتمالا.
"من قبل، كان لدى الاحتياطي الفيدرالي خيار ثنائي بين الانهيار أو البقاء على قيد الحياة. لم تعد الأمور على هذا النحو. أعتقد أنهم شعروا بالخوف من هول مضاربات التداول على المكشوف على مؤشر فيكس.
لم ينتبهوا للموضوع مقدما. وبالتالي شعروا بالخوف. هناك فكرة في أذهانهم أنهم فوتوا الأمر هذه المرة. لو أن الأمور انفلتت فعلا من عقالها، كان من الممكن أن تنهار السوق. وهذا يبرهن على أن هناك بعض الأمور غير السليمة هنا. هم يشعرون بالقلق من أنهم ربما يكونون مسؤولين عن هذا، لأنهم تركوا هذه المراجحة تستمر فترة طويلة فوق الحد. وهم لا يريدون السماح بمضاربة غير مسؤولة."
وجود رئيس مجلس إدارة للاحتياطي الفيدرالي يتفهم أوضاع السوق، على حد تعبير الكثيرين، يمكن أن يكون سلاحا ذا حدين. قد يميل باول، خلافا لما يفعله الخبير الاقتصادي الأكاديمي، لوضع حد لهذا الكلام الفارغ في السوق في وقت مبكر، وألا يرضخ لتنبؤات القدر المحتوم من المصارف. بناء على هذا الرأي، المخاوف المتعلقة بالتضخم ربما لا تكون على صلة بالموضوع. ربما يأمل مجلس الاحتياطي الفيدرالي بقيادة باول أن يتجنب أن يصبح عرضة للمحاصرة مثل ما حدث مع مجلس الاحتياطي الفيدرالي في ظل جرينسبان، عندما استثار حدوث تقلبات عنيفة في سوق الفائدة الثابتة في عام 1994 (حيث يقال إنه سمح باستمرار المضاربات لفترة طويلة فوق الحد) أو عندما وجد نفسه مضطرا لإنقاذ صندوق لونج تيرم والأسواق في عام 1998.
كما أن هنالك أيضا جانبا إنسانيا لهذا الأمر. فقد كان رؤساء مجلس الاحتياطي الفيدرالي الثلاثة السابقون يظهر عليهم وكأنهم جميعا من الأشخاص الأكاديميين، وكانوا يتكلمون بلغتهم وإن كان ذلك بنبرات غالبا ما تكون مختلفة جدا.
باول مختلف عنهم في هذه الناحية، فهو يتكلم بشكل أقوى وأوضح من أي من أسلافه الثلاثة، وغلب عليه أثناء جلسات الاستجواب بأن يكون أكثر ميلا إلى الجمل الإخبارية، متجنبا تعبيرات التحفظ والاستثناءات التي يتفوه بها الشخص الأكاديمي بشكل طبيعي. على مستوى لا شعوري، ربما كان هذا أمرا غير مريح بالنسبة لمراقبي السوق، ذلك أن طريقة خطابه لم تكن بأي شكل من الأشكال أكثر تشددا من خطابات السيدة ييلين خلال العام الماضي، لكنه قال ذلك بأسلوب كان أشبه بأسلوب عملي وواقعي وبشكل غير مريح. وهذا ما أوجد انطباعا قويا لدى الناس.
أنقل إليكم ما قاله جيم بولسن من مجموعة ليوتولد جروب:
"من الواضح أنه لا معلومات لدينا عن جاي باول. بالنسبة إلى كثير من الناس منا، هذه أول فرصة تتاح لنا للاستماع إليه. ربما يكون الأمر حتى أكثر مما يدل عليه ظاهره وقوته في التعبير، والطريقة التي يتعامل بها مع الأمور، وغياب التراجع عن مواقف سابقة. يبدو أن المنحى العام له أقرب إلى التشدد والقوة مما كانت عليه ييلين."
ربما تكون السوق مدفوعة بالخوارزميات هذه الأيام، لكن العامل البشري لا يزال له دوره على نحو يفوق ما يدركه الكثيرون.
فهِم الناس كلمات جاي باول على أنها تنطوي على قوة أكثر مما لو كانت من الرئيسة السابقة، لأنه كان هناك افتراض مسبق من السوق أنه سوف يرضخ لرغباتهم، وبسبب حقيقة أن هذه الكلمات جاءت على لسان رئيس جديد لمجلس الاحتياطي الفيدرالي، فإن هذا هو ما أعطاها قوة إضافية.
ليس هناك شيء مما سمعناه من باول يوم الثلاثاء قبل الماضي، يفترض أن يكون مفاجئا. على أن ما علمناه بالفعل هو المدى الذي استكان فيه المشاركون في السوق، وأقنعوا أنفسهم بأنه سوف يكون لطيفا معهم.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES