Author

ما السر وراء نهوض الصين؟

|
أستاذ جامعي ـ السويد

طرحت سؤالا مهما في نهاية رسالة الأسبوع الماضي، وها أنا أعود إليه مع بعض الإيضاحات. السؤال كان يدور حول القفزة الكبيرة التي حققتها الصين في الثورة الخوارزمية (الرقمية) إلى درجة صار بعض شركاتها الوطنية تنافس وأحيانا تبز مثيلاتها الأمريكية.
قد لا أفلح في تقديم جواب شاف للسر وراء نهضة الصين في مجال التكنولوجيا الخوارزمية، وما أقدمه لا يتجاوز وجهة نظر. مع ذلك سأحاول جهدي أن أربط ما سأقدمه بالقليل من العلم والمعرفة التي في حوزتي كأستاذ جامعي.
أظن أن حصر أي تفسير حول نهضة الصين في كونها بلدا كبيرا وعدد سكان يتجاوز 1. 4 مليار نسمة يعد تفسيرا قاصرا. ربط تملك ناصية العلم والمعرفة من قبل أي بلد بعدد السكان فرضية لا يعتد بها.
هناك دول عدد سكانها لا يتجاوز بضعة ملايين ولكنها تعد من الدول الفائقة التطور والتمدن. وهناك دول بعشرات الملايين من البشر بيد أنها تقبع في أسفل السلم.
شخصيا أعزو النهضة- ليس في الصين بل في دول جنوب شرق آسيا (النمور الاقتصادية)- إلى التطور المذهل الذي حققته في مضمار التربية والتعليم من أدنى المراحل إلى أعلاها.
ولولا النهضة التربوية والتعليمية في جميع مراحلها أكاد أجزم أن الصين لما تمكنت عبور مرحلة تقليد ومحاكاة ما لدى الدول الغربية المتطورة ولبقيت تحت رحمة الشركات الصغيرة والكبيرة التي سال لعابها وهرعت إلى الاستفادة من أسواقها ورخص عمالتها بعد انفتاحها على العالم قبل نحو أربعة عقود.
الصينيون، شأنهم شأن شعوب جنوب شرق آسيا، أناس طموحون. والطموح هدف إنساني نبيل مغروس في جيناتنا ولكن يحتاج إلى تأهيل ورعاية وتدبير.
كلنا نطمح في أن نتعلم ولكن السؤال هو كيف نتعلم؟ الصين ركزت على التربية والتعليم مستفيدة من التجربة السنغافورية التي كانت إلى عهد قريب رائدة في العالم ومن ثم استقت كثيرا من التجربة الإسكندنافية.
والتجربتان تؤكدان أن طموح الإنسان إن بقي على محاكاة الآخرين أو تقليدهم معناه أن الإنسان يراوح في مكانه وقد يتقهقر.
والمحاكاة في التربية والتعليم لا تعدو كونها حث التلاميذ والطلبة على الحفظ وإدخالهم في اختبارات وامتحانات ينجحون فيها إن تذكروا ما حفظوه ويفشلون فيها إن نسوا ما درسوه.
وفي هذا الجنس من التربية والتعليم، الذي أخشى أنه الشائع في العالم العربي، يقف طموح الطالب عند حدّ الحفظ عن ظهر القلب مقدارا من العلم يمكنه تجاوز الاختبار.
ويشيع في هذا النوع من التربية والتعليم نوع من الرتابة لدى المعلمين والطلبة وتكون طبيعة الأسئلة في الاختبار والامتحان من الرتابة بمكان، حيث قد لا يحتاج المرء إلى أي مجهود عقلي نقدي للعبور من مرحلة إلى أخرى.
التفكير الناقد هو الباب إلى النجاح في جميع المراحل التعليمية في الصين. وهذا يعني أن التلميذ أو الطالب لا يستند إلى حفظه المادة بل إلى إشغال عقله من خلال الفهم وإعادة صياغة الفهم بأسلوبه.
ومتى ما تملك التلميذ مهارة إعادة صياغة المعرفة التي قرأها، تصبح المعرفة جزءا من إدراكه العقلي، وهذا ما سيمنحه القدرة على تطبيق المعرفة وتحليلها وتقييمها أيضا. وهذه الخطوات ستقوده إلى التفكير الناقد critical thinking الذي أخشى أن منطقة الشرق الأوسط في حاجة ماسة إليه.
وتنمية التفكير الناقد تقود إلى الابتكار والإبداع creation وهذه المرحلة هي أهم مرحلة في التعليم واكتساب المعرفة، ولن نصل إليها إن لم نتدرب ونتعلم كيف نعيد صياغة النصوص التي نقرؤها ضمن مناهجنا التعليمية وضمن قراءتنا الشخصية بالأسلوب الخاص بنا.
وكانت المدارس في عصر النهضة العربية ولا سيما في العهد العباسي تعتمد في الأساس على إعادة الصياغة لمواءمة الواقع الجديد، وبعدها العمل على تطبيق المعرفة وتحليلها وتقييمها ومن ثم الوصول إلى الابتكار والإبداع، أي تقديم ما هو جديد ينقل المعرفة المكتسبة التي جرت إعادة صياغتها ومعها المجتمع من حال إلى حال أفضل.
ولهذا ظهرت مدارس وفرق وطرق فكرية نقدية كثيرة في عصر النهضة العربية وظهر مفكرون وفلاسفة قاموا بتوطين العلوم المتداولة في زمانهم من خلال التطبيق والتحليل والتقييم.
ولم يقفوا عند هذا الحد بل تجاوزوه إلى مرحلة الابتكار والإبداع، أي تقديم ما هو أفضل من الذي أعادوا صياغته خدمة لمجتمعهم وبيئتهم وثقافتهم.
وهذا ما قام به أبو عبد الله محمد بن موسى الخوارزمي الذي أعاد صياغة المنطق اليوناني وطبقه على الأرقام العربية وأبدع في إنشاء ثورة علمية جديدة هي الخوارزميات logarithms قبل نحو ألف سنة، والعالم كله اليوم مدين له في طفرة التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي.
وهكذا تدرس الصين تلامذتها وتنمي فيهم روح الفكر النقدي كي يعيدوا صياغة ما يدرسونه من أجل الابتكار والإبداع.
متى ستدخل مرحلة إعادة الصياغة والفكر النقدي في مراحل التربية والتعليم في البلدان العربية؟

إنشرها