ثقافة وفنون

تزييف الوعي .. مهارة من لا مهارة له في شبكات التواصل

تزييف الوعي .. مهارة من لا مهارة له في شبكات التواصل

تزييف الوعي .. مهارة من لا مهارة له في شبكات التواصل

بداية الثمانينيات من القرن الماضي، كتب اليساري المصري محمود أمين العالم، كتاب "الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر"، في غمرة الصراع الإيديولوجي المحتدم حينها بين الرأسمالية والشيوعية من أجل التوسع والانتشار، كشف فيه كيف كانت عملية تزييف الوعي بغرض السيطرة على الفكر الثقافي والإعلام والتعليم، إحدى وسائل الاشتغال وأدوات التحكم الأساسية بالسيطرة على الفكر الثقافي، من خلال إعادة ترتيب الأولويات والرفع من شأن القضايا الثانوية في مقابل تهميش القضايا الأساسية.
وتولت الكاتبة والمؤرخة البريطانية فرانسيس س سوندرز "Frances s Saunders" فضح الخفي من خبايا وأسرار تلك الحقبة، ضمن كتابها الرائع "من يدفع للزمار: الحرب الباردة الثقافية"، من خلال وقوفها عند الأموال الضخمة التي أنفقت من أجل للسيطرة على الفكر العالمي، عن طريق إنتاج وعي مزيف في أنحاء العالم، تدعمه بقوة البرامج الإخبارية "الصحافة، التلفاز، الإذاعة"، والثقافية "الأفلام، الكتب، المؤتمرات، الندوات".
تعود مسألة تزييف الوعي بقوة، بعدما أضحى العالم "قرية إلكترونية"، وفق ما نظر له الفيلسوف وعالم الاجتماع الكندي مارشال ماكلوهان "Marshall McLuhan"، الذي أكد على أولوية الوسيط الاتصالي في التأثير في المجتمع، من خلال تكنولوجيا وسائل الاتصال الحديثة.
لقد قطعت الثورة المستمرة التي نعيش على إيقاعها في عصر الاتصال الجماهيري، مع حواجز عصر الزراعة وقوانين عصر الصناعة، وأصبح الكل في تواصل مستمر ودائم، بفضل مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، بعيدا عن قيود الرقابة وآليات الضبط التقليدية.
أعاد هذا التطور المتلاحق في وسائل التواصل الاجتماعي إلى واجهة النقاش مسألة تزييف الوعي بقوة، وبشكل عكسي. فبحسب باولو فريري "Paulo Freire" أضحى "تضليل عقول البشر من خلال هذه الوسائل أداة للقهر تستغله النخبة في تطويع الجماهير لأهدافها الخاصة".
في الماضي، كما جاء على لسان توفيق الحكيم في كتاب "عودة الوعي"، كانت "الحقائق محجوبة، والرؤية الصحيحة للأشياء معدومة، ولم يبق أمامنا إلا اتجاه واحد وصورة واحدة هي ما ترسمه لنا سلطات محفوفة بدوي الطبول.. سحرونا ببريق آمال كنا نتطلع إليها من زمن، وأسكرونا بخمرة مكاسب وأمجاد، فسكرنا حتى غاب عنا الوعي".
في الراهن، انقلبت الآية إلى النقيض. صحيح أن الانفتاح الذي تعرفه وسائل التواصل الاجتماعي يؤدي إلى تدفق المعلومات، لكن السؤال حول نوع وطبيعة وحقيقة المعلومات المتدفقة يظل قائما، فليس كل ما يلمع ذهبا كما في الحكمة المأثورة.
إن الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، أو كما يقال "كثرة المعلومة تقتل المعلومة" إن جاز لنا قياسها على المقولة المأثورة عن الضريبة. حيث يتحول طوفان المعلومات السائل في وسائل التواصل الاجتماعي إلى مدخل للتلاعب بالوعي، بحسب الكاتب الروسي سيرجي مورزا.
وقد نبه عالم الاجتماع الأمريكي رايت ميلز "Wright Mills" إلى هذا الخطر مبكرا، حتى قبل ثورة التكنولوجيا، حين أكد أن الناس لا يحتاجون إلى المعلومات في عصر الحقيقة، الذي تسيطر فيه المعلومات على انتباه الناس وتركيزهم. لكنهم يحتاجون إلى نوعية من المنطق والتفكير والأدوات التي تساعدهم في استثمار المعلومات، وحسن توظيفها وتطوير تفسيرها، كي يتمكنوا من فهم واستيعاب ما يدور في العالم الخارجي.
حتى لا نحلق عاليا في سماء التنظير، يكفي أن نعرج سريعا على ما يطرح من معلومات وأفكار ويتداول من قضايا وموضوعات في رحاب مختلف وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر، سناب شات...) حتى ننتهي بخلاصات تكاد تكون قاسما مشتركا بين رواد هذه الوسائل.
فمن ناحية أولى، تفتقد هذه الوسائل إلى ميكانيزمات تمكن روادها من التمييز بين الحقيقة والإشاعة، أو الأخبار الزائفة - ما يعرف بـ"الفاك نيوز"-، التي تنتشر فيها مثل انتشار النار في الهشيم، حتى أن محترفي الإشاعات يستغلون جمهور هذه الوسائل لنشرها تحقيقا لمصالح أو خدمة لجهات معنية.
ومن ناحية ثانية، يتضح أن النقاش حول موضوع أو قضية ما تنتهي بانتهاء مفعول الخبر الذي كان وراء مشاركتها بين أكبر عدد من الأفراد، أو بظهور خبر جديد، أقوى وأكثر إثارة من سابقه. وبذلك يدخل الجمهور في دوامة لا متناهية من الأخبار أو المعلومات التي ينسى بعضها بعضا بلا توقف.
ومن ناحية ثالثة، لا يتجاوز النقاش حول هذه القضايا والموضوعات سطحية الحدث وإغراءات الخبر، ما يحول دون تحقيق تراكم نوعي، يمكن بدوره من صناعة وعي نوعي، ينفذ إلى ما ورائها، من سيرورات اجتماعية أو توجهات سياسية أو حسابات اقتصادية أو خيارات ثقافية.
كان تزييف الوعي في الماضي، يتم وفق أجندات معدة ومدروسة سلفا ترعاها قوى كبرى، بقصد حماية مصالحها الداخلية والخارجية، أو في إطار الصراع والتنافس مع باقي القوى الكبرى في العالم، ولنا في مؤلف سوندرز "من يدفع للزمار" أكثر من مثال على ذلك. ويتم ذلك عادة بتكلفة باهظة وجهد كبير، مع تسجيل تواضع في النتائج والأثر الناجم عنها.
أما الآن، فالمسألة في غاية اليسر ومنتهى السهولة، ولم تعد بحاجة إلى عدة ولا عتاد كبيرين قصد تنفيذها. خاصة وأن الوعي في العوالم الافتراضية تحول إلى ما يشبه صخرة سيزيف في الأسطورة اليونانية، التي يحملها إلى أعلى الجبل ثم تهوي ليعيد الكرة من جديد. إنه ديدن جمهور وسائل التواصل الاجتماعي، ما أن يبدأ في تعميق الوعي بقضية أو موضوع ما حتى يظهر آخر جديد يبدأ معه على منوال سابقه.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون