السياسية

مضايقات إيران البحرية .. تكتيك متغير وعقيدة عدائية ثابتة

مضايقات إيران البحرية .. تكتيك متغير وعقيدة عدائية ثابتة

في 26 كانون الثاني (يناير)، أفادت صحيفة "وول ستريت جورنال" نقلاً عن مصادر عسكرية أمريكية، عن وقف شبه تامّ لمضايقات المراكب الصغيرة التي تمارسها "القوات البحرية لفيلق الحرس الثوري" الإيراني خلال الأشهر الخمسة التي سبقت تاريخ نشر المقالة، وقد دفع هذا التغيير عديدا من المراقبين إلى التكهن بدوافع إيران المحتملة التي قد تشمل تغييراً في العقيدة البحرية، أو تحوّلاً في التكتيكات، أو زيادة الحذر في مواجهة سياسات أمريكية أكثر صرامة تجاه إيران. ومهما كان الدافع وراء ذلك، فمن غير المرجح - بحسب فرزين نديمي المحلل المتخصص في الشؤون الإيرانية في معهد واشنطن لللدراسات - أن يؤدي الحد من المضايقات البحرية إلى حدوث تحوّل دائم نحو موقف أقلّ عدائية، ولا سيّما نظراً إلى سجلّ إيران في الخليج والركائز العقَدية لـ "الحرس الثوري".

نمط من المضايقة

منذ أوائل الثمانينيات، أدّت النشاطات العدائية لـ "القوة البحرية لحرس الثورة" في الخليج ومضيق هرمز إلى اكتسابها سمعة ذات خطورة عالية في أوساط القوات البحرية الأمريكية. ووفقاً لمسؤولين عسكريين أمريكيين، بلغ المعدّل الشهري لأنشطة "القوة البحرية لحرس الثورة"، "غير الآمنة وغير المحترفة" إلى 1.75 في عام 2015، و3.0 في عام 2016، و2.0 خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2017. ويُعتبر تهوّر "القوة البحرية لحرس الثورة" بارزاً بشكل خاص بعد إرسالها 50 مجموعة عمل إلى خليج عدن والمحيط الهندي منذ عام 2009 من دون تسجيل أي حادث يُذكر يتعلق بالسفن الأمريكية.
في المقابل، تعمل "القوة البحرية لحرس الثورة" في موقع قريب من السفن الأمريكية في مياه الخليج الضيّقة. وعلى مرّ السنين، تسبّبت مثل هذه التكتيكات في حدوث عديد من المواجهات الهادفة إلى تحقيق رغبة المرشد الأعلى علي خامنئي في مضايقة "العدو" الأمريكي وإذلاله، متجاهلاً خطر التصعيد خلال مجرى العملية.

تغيير عقَدي أو تكتيكي

إلا أنّه منذ منتصف آب (أغسطس) 2017، انخفض متوسط عدد المواجهات البحرية الإيرانية "غير الآمنة وغير المحترفة" إلى الصفر. وتفيد إحدى النظريات الكامنة وراء هذا التغيير المحيّر بأنّ "القوة البحرية لحرس الثورة" تعمد بكل بساطة إلى "التشويش" لتفادي إمكانية التكهّن وإضافة عنصر الغموض إلى معادلة الخليج. فقد وصف خامنئي بشكل متكرر "ولاية الثورة" بالاستمرارية التي قد تأخذ أشكالاً عديدة وفقاً للـ "مقتضيات" الراهنة، وتمتدّ هذه الأشكال إلى أبعد من مجرّد حماية الوضع العسكري الراهن في المنطقة - وبالأحرى، أصدر تعليماته إلى "الحرس الثوري" باعتماد مقاربات مبتكرة "غير تقليدية" للتخطيط وتنفيذ العمليات.
وقد كرّر هذا الرأي قائد "الحرس الثوري" محمد علي جعفري في خطاب ألقاه في 30 كانون الثاني (يناير) 2017، مشدّداً على خيارَين مختلفَين ظاهرياً لمنظمته لـ "الدفاع عن الثورة"، هما: الدفاع التقليدي عن المبادئ الثورية الراسخة، والدفاع غير التقليدي عن "الحركة الديناميكية للثورة في المرحلة المقبلة". ثمّ أشار إلى أنّ "الحرس الثوري" يفضّل بقوّة الخيار الثاني. أمّا بالنسبة إلى ما يعنيه هذا الخيار على أرض الواقع، فقد نوّه الجعفري في 18 أذار (مارس) 2014 عندما ألقى خطاباً أعلن فيه أنّ (سرّ) بقاء "الحرس الثوري" بحد ذاته اعتمد على (اتخاذ) "الإجراءات الثورية" في الوقت المناسب، مثل الاعتقال الدوري لبحّارة غربيين في الخليج. "كانت المرة الأخيرة التي وقع فيها مثل هذا الحدث قبل عامين". وقد ردّد رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية اللواء محمد باقري اتّجاه جعفري في رسالة نُشرت في 29 نيسان (أبريل) 2017.
بعبارة أخرى، قد يمثّل الوقف الدائم لتكتيكات المضايقة التي تمارسها "القوة البحرية لحرس الثورة" انحرافاً حاداً عن العقيدة التي عبّر عنها خامنئي والقيادة العليا في "الحرس الثوري"، كما قد يعني ضمناً أنّ "الحرس الثوري" يتخلّى عن موقف العدوان الهجومي الذي ترتكز عليه روحه التأسيسية على المستوى الاستراتيجي.
أمّا التفسير الآخر المحتمل فهو أنّ "القوة البحرية لحرس الثورة" قد تكون في طور الانتقال إلى تكتيكات أو منصّات جديدة مثل انخفاض الاعتماد على هجمات سرب المراكب الصغيرة وزيادة الاعتماد على الطائرات بدون طيّار والغواصات. وفي 12 كانون الثاني (يناير) 2016، وفي اليوم ذاته الذي تم فيه إلقاء القبض على عشرة بحّارة أمريكيين بعد أن ضلوا طريقهم في المياه الإقليمية الإيرانية، حلّقت طائرة بدون طيّار من نوع "شاهد 129" فوق حاملة الطائرات الأمريكية "يو أس أس ترومان" وحاملة الطائرات الفرنسية "شارل ديجول" في الخليج. وأفادت التقارير أنها أول رحلة تحليق من نوعها خلال عامين. إلا أنّه سرعان ما أصبحت هذه الحوادث النادرة حالات يومية، وقد عزّزها التوافر المتزايد لتصاميم الطائرات بدون طيار الأكثر تأهيلاً وذات قدرة البقاء لأطول مدّة. وعلى نحو لافت جدّا، دخلت طائرات إيرانية بدون طيّار في مواجهات خطيرة مع طائرة من حاملة الطائرات "يو أس أس نيمتز" في آب (أغسطس) 2017.

حذر شديد

هناك احتمال آخر وهو أنّ "القوة البحرية لحرس الثورة" تتصرّف بحذر أكبر بشكل متعمد حول السفن الأمريكية، سواء بسبب الضغط الذي تمارسه حكومة روحاني أو حسابات "الحرس الثوري" بشأن نوايا واشنطن. فخلال حملته الانتخابية، ندّد دونالد ترمب مراراً بتكتيكات التخويف التي يمارسها "الحرس الثوري" في الخليج، واعداً بأنّه "سيتمّ إطلاق النار على مراكب إيران الصغيرة في المياه" إذا استمرّت في القيام بـ "حركات" غير لائقة ضدّ السفن الأمريكية.
ومع ذلك، لا يبدو أنّ "القوة البحرية لحرس الثورة" قد غيّرت سلوكها على الفور بعد تولّي ترمب منصب الرئاسة: فقد شهد النصف الأوّل من عام 2017 ما لا يقل عن 14 "مواجهة غير آمنة و/أو غير محترفة" بين القوات البحرية الأمريكية والإيرانية، مقارنة بـ 36 مواجهة ككلّ في عام 2016. ففي شهرَي حزيران (يونيو) وتمّوز (يوليو) الماضيين، قامت قوارب "القوة البحرية لحرس الثورة" بمضايقة السفن الأمريكية في حالتَين على الأقل، في حين حلّقت الطائرات الإيرانية بدون طيّار بشكل خطير على مقربة من حاملة الطائرات "يو أس أس نيمتز" أو طائراتها عند الهبوط مرّتين في شهر آب (أغسطس). غير أنّه في وقت لاحق من ذلك الشهر، أفاد مسؤولون عسكريون أمريكيون بأنّ هذا السلوك قد توقّف بشكل مفاجئ.
ويوحي ذلك بأنّ شيئاً ما قد يكون قد تغيّر في حسابات "القوة البحرية لحرس الثورة" في الصيف الماضي. إذ يدّعي مسؤولون عسكريون إيرانيون أنّ موقف البحرية الأمريكية "الأكثر احترافاً" هو السبب الكامن وراء انخفاض المواجهات غير الآمنة، لكن لم يحصل أي تغيير يُذكر في طريقة عمل القوّات البحرية الأمريكية في الخليج. وربما كانت العمليات العسكرية الأمريكية الأكثر حزماً في أماكن أخرى في المنطقة قد شكّلت عاملاً مساهماً في ذلك، من بينها الهجوم بالصواريخ على "قاعدة الشعيرات الجوية" في سورية "7 نيسان (أبريل) 2017"، والغارات الجوية المتنوّعة على ميليشيات موالية لإيران في سورية "8 حزيران (يونيو) و20 حزيران (يونيو)"، وإسقاط الطائرات الإيرانية بدون طيّار في سورية "8 حزيران (يونيو) و20 حزيران (يونيو)"، وإسقاط طائرة سورية "18 حزيران (يونيو)". ‘ضافة إلى ذلك، كان تموز (يوليو) 2017 الشهر الذي وجّهت فيه إدارة ترمب أقوى الإشارات حتى الآن إلا أنّ واشنطن قد لا تصادق من جديد على الاتفاق النووي الإيراني عندما سيكون موضع مراجعة في شهر تشرين الأوّل (أكتوبر).

الاستنتاج

يجب ألا نستبعد احتمال قيام "الحرس الثوري" بتغيير سلوكه ردّاً على الضغوط الخارجية، بما أنّ المنظمة قد أُجبرت في السابق على كبح نفسها على جبهات أخرى. فعلى سبيل المثال، تمت إعاقة بعض نواحي برنامجها الصاروخي بعيد المدى بسبب مشكلات سياسية، هذا إن لم تكن مرتبطة بالميزانية، لبعض الوقت، مع اتّهام المحافظين لحكومة روحاني بحجب التمويل عن برنامج الإطلاق الفضائي التابع لوزارة الدفاع للسنة الثالثة على التوالي - والأرجح أنّ هذا عائد جزئياً إلى لضغط الذي تمارسه واشنطن وحلفاؤها.
لذلك، يجب تشجيع "القوة البحرية لحرس الثورة" على مواصلة سلوكها المخفّف للتصعيد. ولتعزيز إمكانيات تحوّل هذا الوضع المتحسّن إلى المعيار المستقبلي، يجب على البحرية الأمريكية ألا تركز على فترات الهدوء فحسب، بل يجب أن تنشر أيضاً تفاصيل عن وقوع أي مواجهات "غير آمنة وغير محترفة" بمجرد حدوثها. ومن خلال مشاركة التفاصيل مع المنظمات الدولية، وهيئات السلامة البحرية، والجمهور، تستطيع واشنطن المساعدة على زيادة الثمن الدبلوماسي الذي تدفعه إيران مقابل مثل هذه العمليات.
إلا أنّه في الوقت نفسه، لا يجدر بقوّات التحالف الاطمئنان، حيث أظهرت "القوة البحرية لحرس الثورة" أنّها تستطيع أن تغيّر تكتيكاتها في الخليج بسرعة. وفي حين تتمتّع هذه القوة البحرية ببعض المرونة في إعادة ترتيب "خطّ دفاعها الأمامي" على طول الحدود البحرية الإيرانية، يبقى اتّجاهها العقَدي من نوع "الأعمال الثورية" العدائية التي حدّدها المرشد الأعلى.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من السياسية