Author

أمن أوروبا يلطف وقاحة «بريكست»

|
كاتب اقتصادي [email protected]

"في الديمقراطية جهل ناخب واحد، يعيق أمن الأمة كلها"
جون كيندي - رئيس أمريكي راحل

لا شيء يخيف أوروبا سوى القلق على أمنها. فهذه المنطقة عاشت الويلات جراء كل أشكال الحروب الممكنة وغير الممكنة، التقليدية منها وغير التقليدية، التاريخية منها والحديثة، الأهلية والإقليمية. يمكننا أن نمضي قدما في توصيف الحروب التي مرت بها، دون نقص في التوصيفات. الخوف في أوروبا على أمن القارة، يدفع حتى اليوم دولا انتصرت في الحرب العالمية الثانية مثل بريطانيا وفرنسا، بالإبقاء على قواعد عسكرية فوق الأراضي الألمانية. وكذلك تفعل الولايات المتحدة أيضا في هذا البلد. الأمن الأوروبي هاجس كل الأوروبيين بمن فيهم بالطبع، أولئك الذين هددوه في مناسبات عدة. هناك المليارات من الدولارات تنفق في هذا المجال، دون أدنى اعتراض من أي جهة، بما فيها أحزاب المعارضة التي اعتادت أن تعارض أي شيء. هل هو "أي الأمن الأوروبي" خط أحمر؟ إنه أكثر من ذلك.
من هنا، يمكن فهم ترحيب الأوروبيين كلهم "دون استثناء" بمقترح رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، حول ضرورة إبرام معاهدة أمنية جديدة مع الاتحاد الأوروبي اعتبارا من العام المقبل. فهؤلاء اتفقوا علنا أن الملف الأمني على الساحة الأوروبية، أخطر من أن يترك عرضة للتجاهل في إطار مفاوضات الانفصال الجارية حاليا بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، وهو أهم من أن يترك إلى مراحل لاحقة من هذه المفاوضات. وستكون هناك خطورة لا يمكن تصورها لو أن جهة ما "وهذا مستبعد بالطبع" تعاطت مع الأمر كغيره من الأمور الأخرى. أي عدم منحه أولوية بل استثناءات إذا كانت ضرورية. الكل رحب بالمقترح البريطاني، والمثير أن المسؤولين الأمريكيين "ليس منهم الرئيس دونالد ترمب حتى الآن"، انضموا إلى زملائهم الأوروبيين في الترحيب.
مع قيام السوق الأوروبية المشتركة في خمسينيات القرن الماضي، كان على رأس أهدافها تكريس السلام في القارة الأوروبية إلى الأبد، خصوصا بعد أن ثبت لاحقا أن التعاون الاقتصادي يؤدي تلقائيا إلى إقرار الأمن بين أطرافه. وكلما خطا الأوروبيون خطوة نحو الاتحاد، كانت تعتبر خطوة ضامنة أخرى في هذا المجال. وهذا ظهر في أكثر من تجمع دولي أو إقليمي صحي "لا ارتجالي". وغالبية دول الاتحاد الأوروبي الـ28 هي في الواقع من أعضاء حلف شمال الأطلسي "الناتو"، باستثناء السويد والنمسا وقبرص. وحتى هذه الدول يمكن اعتبارها بصورة أو بأخرى تحت حماية هذا الحلف بحكم الجغرافيا والتاريخ والمصالح المشتركة. أي أن الاتحاد الأوروبي وفر الغطاء الأمني اللازم للقارة حتى في أعقاب انتهاء الحرب الباردة.
المهم الآن، أن مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لا علاقة لها بالاتفاقية الأمنية المزمعة مع الاتحاد، لاسيما أن المملكة المتحدة هي ثاني أكبر مساهم في ميزانية حلف "الناتو"، ناهيك عن الاتفاقيات التلقائية التي تجمعها مع بقية بلدان الاتحاد. وعندما أعلنت تيريزا ماي من ميونيخ أن بلادها ستواصل قيادة مهام عسكرية وتبادل معلومات المخابرات إذا وافقت بروكسل على إبرام معاهدة تسري اعتبارا من 2019، وجدت تأييدا كبيرا حتى من قياديين أوروبيين يعرفون بـ"الصقور" في المفاوضات الراهنة بين بروكسل ولندن. وبالطبع لم يستطع هؤلاء إلا "الغمز" من قناة "بريكست" عندما قالوا كان ذلك أسهل لو لم تخرج بريطانيا أصلا من الاتحاد. وهذا صحيح، فالأمر في هذه الحالة لا يحتاج إلى اتفاق أصلا.
لكن لا عودة عن الانفصال البريطاني. فلا يوجد سياسي في المملكة المتحدة في دائرة الحكم أو يسعى إلى الحكم يمكنه أن يعلن غير ذلك، بصرف النظر عن قناعته الشخصية في خطأ الانفصال أساسا. فالطلاق واقع وسيتم في العام المقبل. ما يجري التركيز عليه الآن هو الخروج بأقل الخسائر الممكنة، بعيدا عن الجانب الأمني. وهذا الجانب "كما هو واضح" لا خلاف عليه، بما في ذلك المتعلق بموضوع اللاجئين والمهاجرين. فالمملكة المتحدة لا يمكن إلا أن تتعاون مع بلدان مجاورة كفرنسا وبلجيكا وألمانيا وإيرلندا في هذا المجال. فالمهاجرون "بحسب كثير من الجهات" لا يشكلون عبئا ماليا فحسب، بل بينهم من يكون ضمن النطاق الإرهابي. وعلى هذا الأساس ينبغي التعاون بين كل البلدان المعنية، سواء ضمن الاتحاد أو خارجه.
من هنا فالأمن لا يتعلق فقط بالمخاطر الآتية من دول كروسيا، بل أيضا من موجات المهاجرين واللاجئين المتحركة على الساحة العالمية ككل. فعلي سبيل المثال، لبريطانيا قواعد حدودية فوق الأراضي الفرنسية، يمكنها أن تبقي أي شخص قادم إليها على الأرض الفرنسية إذا لم يستوف شروط دخول المملكة المتحدة. هل ستبقى هذه الميزة المهمة بالنسبة للندن على الأرض الفرنسية؟ هناك تشابك رهيب في التعاملات الأمنية بين لندن وبقية عواصم الاتحاد الأوروبي، وهذه النقطة في حد ذاتها تتطلب مفاوضات منفصلة بالفعل لتفكيكها أو لاعتماد شكل جديد للتعاون بعد الانفصال مباشرة. ومن هنا يمكن القول، إن أحدا لا يمكنه أن يتصور الشكل النهائي لمفاوضات الخروج، وإن بات الشكل الأمني الكبير واضحا أكثر.

إنشرها