إفريقيا .. دروس جديدة في التغيير السلمي

إفريقيا .. دروس جديدة في التغيير السلمي

كانت واقعة العزل السلمي التي أقدم عليها الجيش الزيمبابوي ضد روبيرت موجابي، قيدوم المستبدين في إفريقيا؛ أواسط شهر نوفمبر الماضي، حدثا عابرا؛ وربما استثنائيا في زمن التراجع والركود الديمقراطي عالميا، داخل قارة عرفت عبر التاريخ بانقلاباتها الدموية.
بيد أن تطورات الأحداث في أكثر من بلد هناك، أكدت بأن التغيير السلمي الذي ينتعش هناك ليس سحابة صيف عابرة، بقدر ما هو خيار قررت الشعوب الإفريقية الانخراط فيه بكل وعي ومسؤولية، بعدما جربت القوة والسلاح ردحا من الزمن بلا عائد؛ غير الفوضى والمجاعات والحروب وصنوف عدة من الأزمات.

في أقصى القارة جنوبا

تمت الإطاحة برأس النظام، في أقصى نقطة من القارة الإفريقية، دون إطلاق رصاصة واحدة، في دولة تفوق ساكنتها 55 مليون نسمة؛ فيها أكبر عدد من السكان ذوي الأصول الأوروبية، وأكبر مجتمع ملون في القارة. بثروات طبيعية غنية وإمكانات اقتصادية هائلة، وتجربة رائدة في النضال ضد الميز العنصري.
قرر حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم بجنوب إفريقيا فجر الثلاثاء المنصرم، في ختام اجتماع له استغرق زهاء 13 ساعة، إقالة الرئيس جاكوب زوما (76 سنة) من منصبه، بعدما فشلت الضغوط التي مارسها عليه لإقناعه بالاستقالة.
ظل زوما يقاوم لأكثر من سنة محاولات إزاحته من قبل رفيقه في الحزب، سيريل رامفوزا (65 سنة)، لكنه في النهاية أذعن للأمر قبل ساعات من تقديم حزب المؤتمر مذكرة لحجب الثقة عن حكومة زوما في البرلمان. قرار الاستسلام هذا ما كان تلميذ مانديلا ليقدم عليه، لو لم يوقن أن لحظته حانت، قائلا في خطاب الوداع: «إنني لا أحب أن تسيل قطرة دم واحدة بسببي، وسأبقى مناضلا في حزبي، حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، الذي تربيت فيه طيلة سنوات عمري".
كانت تسع سنوات (2009-2018) التي قضاها زوما في الحكم، مملوءة بالفضائح السياسية والمالية والأخلاقية، ما دفع حزبه للتحرك من أجله عزله، بعد تدهور شعبية الحزب في سوق الانتخابات، وتدني الحصيلة الاقتصادية لفترة حكم زوما، وانتشار أخبار الفساد السياسي وسط محيط الرئيس، فقد أظهرت دراسة حديثة، صادرة عن مركز العلاقات بين الأعراق في جوهانسبورغ، أن حزب مانديلا فقد في السنوات الأخيرة أكثر من 20 في المائة من شعبيته لمصلحة أحزاب المعارضة.
بذلك تنجح مجددا قواعد اللعبة الديمقراطية في حقن الدماء، وتثبيت الهدوء والاستقرار، وضمان انتقال سلس للسلطة، في بلد يعرف أعلى نسبة للإجرام في العالم؛ حيث يسمع الرصاص في عاصمته كل يوم، وهذا مفهوم إذا عرفنا أن النسبة العامة للبطالة تصل في جنوب إفريقيا إلى 27 في المائة ووسط الشباب، وتقترب من نسبة 50 في المائة بين عموم الساكنة.
ذات القواعد التي أوصل ثعلب حزب المؤتمر؛ كما يسميه رفاقه في الحزب، إلى سدة الرئاسة، بعدما تعمد تابمبيكي إقصاءه طيلة فترة توليه المسؤولية بعد تنحي مانديلا، تخلعه من رئاسة البلد، مع لائحة ثقيلة من التهم قد تعيد الرجل إلى السجن حيث قضى عشر سنوات؛ تعلم السياسة والنضال وفن التفاوض في حقبة نظام الميز العنصري.

في القرن الإفريقي شرقا

في شرق القارة السمراء، وتحديدا بإثيوبيا ثاني أكبر دول إفريقيا من حيث عدد السكان بعد نيجيريا، والعاشرة من حيث المساحة، وإحدى أسرع اقتصاديات إفريقيا نموا، أقدم رئيس الوزراء هايلى ماريام ديسالين على تقديم استقالته من منصبه، ومن رئاسة الحزب، في خطوة يعتبرها شخصيا جزءا من الجهود الرامية إلى إيجاد حل دائم للوضع المتوتر هناك.
شهر غشت (آب) عام 2012 تولى ديسالين رئاسة الوزراء خلفا لرئيس الوزراء الراحل ميليس زيناوي، مهندس الطفرة الاقتصادية الأخيرة في إثيوبيا، وأعيد انتخابه إثر فوز الاتلاف الحاكم المعروف باسم الجبهة الديمقراطية الثورية للشعوب الإثيوبية، في انتخابات مايو (أيار) 2015. وقد شهدت البلاد عقدا من نمو مزدوج في الأرقام، وذلك بسبب الاستثمارات الكبيرة للدولة في البنية التحتية.
يذكر أن معدل النمو في البلد قد تباطأ في السنوات الأخيرة، تحت ضغط الجفاف الشديد والاضطرابات الاجتماعية، التي يعتبر ديسالين نفسه مسؤولا أخلاقيا عنها. فالاحتجاجات التي شهدتها البلاد في السنين الأخيرة، وأوقعت مئات القتلى على خلفية مطالبة محتجين بإطلاق سراح زعماء معارضة مسجونين، هزت الأوضاع الداخلية لهذا التنين الإفريقي الصاعد، لدرجة وجدت معها السفارة الأمريكية في أدس أبابا نفسها مجبرة على مساندة المحتجين، حين قالت في بيان لها: «يجب أن يكون الناس أحرار في التعبير عن أنفسهم سلميا، وأن يكونوا واثقين من السماح لهم القيام بذلك... يجب أن تكون القوة لحماية سلامة الجمهور، حتى في مواجهة الاحتجاجات العنيفة».
عادة حالة الطوارئ مجددا للبلاد عقب اجتماع مجلس الوزراء، بعدما مضي سبعة أشهر فقط على انصرام تلك التي فرضتها الحكومة منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2016 بغرض استعادة الهدوء في البلاد. وذلك بعد موافقة المكتب السياسي للائتلاف الحاكم على استقالة الرئيس، ما يفرض التحكم في الأوضاع ومواجهة التحديات الأمنية والاحتجاجات، في انتظار مآلات انتقال السلطة، التي تتطلب ما بين شهر وشهرين، ريثما يتم اختيار خلف للرئيس.
إن ما يجري أن ما في إثيوبيا لا يعدو أن يكون؛ في نظر بعض المراقبين، مجرد مسرحية، وليس من التغيير السلمي الحقيقي في شيء. فالحزب الحاكم هناك اضطر إلى مطالبة رئيس الوزراء بالاستقالة للتضحية به، بهدف إنقاذ النظام الحاكم من ثورة شعبية، منبهين إلى أن البرلمان الإثيوبي تحت سيطرة الحزب الحاكم بنسبة 100 في المائة.
تحظى هذه الملاحظة بنصيب من الصدقية مع قابليتها للتكذيب، حين نستحضر أن السلاح لغة سائدة في القارة السمراء حتى الأمس القريب، ما يعني أن مناورة من هذا الشكل أمر غير متوقعة من نظام قادر على استعمال القوة للقمع دون التضحية برئيسه.
قد نكون متفائلين زيادة عن اللازم حين نقول إن الأفارقة استوعبوا الدرس أخيرا .. فلا سبيل أضمن من أجل التغيير من التقيد والخضوع لقواعد الديمقراطية، أما السلاح والقوة فلا يورثان غير الخراب والدمار والهلاك.

إنشرها

أضف تعليق