Author

الاسترليني .. عملة «اللطم»

|
كاتب اقتصادي [email protected]

"عدم التوصل إلى اتفاق بين لندن وبروكسل بشأن التسوية المالية، يُمكن أن يدفع الاسترليني إلى الأسفل".
ستيفن باور مصرفي في ستاندارد بنك

حتى فطاحل المال، يفضلون هذه الأيام أن يتحدثوا عن الجنيه الاسترليني بالعموميات، خوفا من الوقوع في المحظور المعلوماتي -إن جاز التعبير- فالعملة البريطانية منذ أكثر من عام ونصف العام متقلبة، وكل ارتفاع لها لا يعني ارتفاعا ضمن النطاق المستدام، وكل انخفاض فيها يبدو للغالبية أقرب إلى الواقع المستمر. ومع ذلك الجميع يلتزم الحيطة في تقييم الاسترليني، وبالطبع في توقع مستقبله. والحق: إن هذا الارتباك ضرب الناس العاديين في بريطانيا وكل بلدان الاتحاد الأوروبي، ولا يزال يسيطر على الساحة بصورة أو بأخرى. لماذا؟ لأن وضعية الاسترليني مرتبطة تماما بما ستصل إليه مفاوضات خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. والمشكلة أنه مرتبط الآن حتى بأدنى تصريح لسياسي بريطاني أو أوروبي من ناحية المحتوى والمستوى في هذا المجال.
لم يخف المتعاملون في العملات صعوبة التعاطي بالاسترليني حاليا، والسبب ليس طبيعة اتفاق الانفصال النهائي، بل الأجواء التي تجري فيها المفاوضات نفسها. وهي مفاوضات في أحسن الأحوال ليست سلسة، بل يمكن بسهولة التأكيد أنها عدائية في بعض المكامن والمستويات والموضوعات المطروحة فيها! ناهيك عن آثار "الحرب" الداخلية اليومية التي تعيشها الحكومة البريطانية بين تيار الانفصال بأي ثمن، وتيار الانفصال ولكن باتفاق جيد، يضمن علاقات جيدة مستقبلا مع الاتحاد الأوروبي. نحن هنا لا نتحدث بالطبع عن بعض الأصوات التي بدأت تعلو في الحياة السياسية البريطانية، وتطرح أهمية طرح الاتفاق المستقبلي مع أوروبا لاستفتاء عام، لاستكمال الديمقراطية من كل جهاتها. كلها تؤثر سلبا في أداء العملة البريطانية، التي عانت الانخفاض بأكثر من 30 في المائة منذ قرار الانسحاب من الاتحاد.
في الفترة الأخيرة بدا هذا واضحا، من خلال التقلب الضمني لمدة شهر على الاسترليني أمام الدولار بنسبة 13 في المائة! وهو تقلب لا يضرب عادة سوى العملات الضعيفة، أو تلك التابعة لبلدان تعاني أداء اقتصاديا سيئا، وغالبيتها لا تكون (عادة) ضمن قائمة العملات الصعبة. هذا التقلب لا يرتبط حتى الآن بآفاق الاتفاق المتوقع بين لندن وبروكسل، وهو مرتبط ببساطة بموقف رئيس الوزراء البريطانية الضعيف حيال كل شيء تقريبا، فضلا عن أنها لا تمتلك القوة الكافية لإدارة حكومتها بالصورة المطلوبة، ناهيك طبعا عن التآمر المستمر من عدد من نواب حزبها لإزاحتها حتى قبل استكمال مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي. إلى جانب هؤلاء جميعا، يأتي الوزراء أنفسهم الذين يسعون لخروج صعب، وليس مهما تبعاته المستقبلية.
لم يحدث للجنيه الاسترليني أن أصيب بهذا الداء منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، وتحديدا منذ خروج بريطانيا (في عهد حكومة جون ميجور) من آلية الصرف الأوروبية. حتى في عز الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة، بقيت العملة البريطانية متماسكة، وكانت أفضل من غيرها بما في ذلك اليورو. اليوم الوضع مختلف تماما. فالجنيه يترنح متقلبا بصورة لا تليق به، وليس هناك نقطة ارتكاز له قبل وضوح الرؤية حول الاتفاق النهائي لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وهذا الاتفاق إذا لم يكن مناسبا للمملكة المتحدة، فإن العملة المشار إليها لن تكون بالمستوى المأمول لها على الساحة البريطانية. فكل شيء مرتبط بطبيعة الاتفاق. إذا كان صعبا ستكون هناك مصيبة على الاقتصاد البريطاني كله بما فيه الاسترليني، وإذا كان سهلا، فإن لندن تستطيع المضي قدما بعلاقات اقتصادية جيدة مع الاتحاد وبقية الدول خارجه.
ومع ذلك، لابد من التأكيد أن الجنيه الاسترليني تمكن في كل الأحوال من الصمود أمام الضربات التي تعرض لها منذ منتصف عام 2016. صحيح أنه خسر 30 في المائة من قيمته، لكن الصحيح أيضا أنه تماسك رغم الصدمة التاريخية الهائلة الآتية من قرار الخروج. لكن كل هذا يبقى مهددا بالفوضى السياسية الداخلية البريطانية، التي بلغت درجة دفعت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أن تقول لنظيرتها البريطانية تيريزا ماي علنا: "إذا كنتم أنتم لا تعرفون ماذا تريدون في مفاوضات الانفصال، فنحن لا نستطيع مساعدتكم". كل خلاف سياسي أو حتى مشاجرة عابرة بين السياسيين باتت تؤثر اليوم سلبا في عملة المملكة المتحدة. فكيف الحال بحرب سياسية داخلية، تحولت على الساحة المحلية سخرية الرأي العام نفسه؟
ولا شك في أن الخطوات التي اتخذها بنك إنجلترا المركزي في الأشهر الماضية ساعدت في إسناد الاسترليني. وهذا متوقع بالطبع، علما بأن لا سلطة سياسية للحكومة على البنك المركزي. وفي كل الأحوال عندما لا تؤمن بريطانيا اتفاقا انفصاليا سلسا مع الاتحاد الأوروبي من الآن حتى آذار (مارس) 2019، فحتى البنك المركزي لا يمكنه أن يدعم العملة الوطنية، خصوصا عندما يصير الاقتصاد كله بلا آفاق واضحة.

إنشرها