السياسية

الدولة .. احتكار القوة ومشاع التسمية

الدولة .. احتكار القوة ومشاع التسمية

تميزت العصور القديمة والوسطى بغياب مفهوم الدولة بشكلها الحالي، حيث انتشرت مسميات مختلفة لأشكال السلطة القائمة حينها، منها الإمبراطورية والسلطنة والممالك ... وكان أساس الحكم في معظم التجارب دينيا، حتى عام 1648 عقب توقيع اتفاقية وستفاليا التي وضعت حدا لحرب دامت 30 سنة في القارة الأوروبية، وانتهت معها سلطة الكنيسة على الحكم.
يقع شبه إجماع في أوساط الباحثين على أن تلك المعاهدة، كانت أصل نشأة "الدولة الحديثة" التي سوف تعمم لاحقا في مختلف أنحاء العالم، بعدما أصبحت إحدى حقائق الحياة السياسية المعاصرة التي رسخت تدريجيا، حتى أصبحت تشكل اللبنة الأولى في بنية النظام الدولي الراهن.
إن اعتبار "الدولة" مؤسسة عالمية ضرورية، لم يحل دون قيام اختلاف كبير حول تعريفها، لدرجة يمكن معها القول إن إيجاد تعريف لمفهوم الدولة تحول إلى صراع أيديولوجي في حد ذاته؛ كون التعاريف المختلفة ناتجة عن نظريات مختلفة لوظيفة الدولة، ما ولد استراتيجيات سياسية ونتائج مختلفة.
تاريخيا، تعود جذور الكلمة إلى اللغة اللاتينية (Position) التي تعني الوقوف، وظهر مصطلح "الدولة" في اللغات الأوروبية؛ بداية من القرن الخامس عشر، قبل أن يتطور مع مطلع القرن الثامن عشر باستخدام تعبير (Publicae) اللاتيني الذي يعني الشؤون العامة.
قدمت عدة تعاريف في معرض تحديد مفهوم الدولة، ويظل أكثرها شيوعا تعريف المفكر الألماني ماكس فيبر الذي عرفها بأنها "منظمة سياسية إلزامية مع حكومة مركزية تحافظ على الاستخدام الشرعي للقوة في إطار معين من الأراضي". فيما عرفتها موسوعة لاروس (Larousse) الفرنسية بأنها "مجموعة من الأفراد الذين يعيشون على أرض محددة ويخضعون لسلطة معينة". أما أغلبية فقهاء القانون الدستوري فيتفقون على أن الدولة "كيان إقليمي يمتلك السيادة داخل الحدود وخارجها، ويحتكر قوى وأدوات الإكراه". وتذهب اتفاقية مونتيفيديو (Montevideo) بشأن حقوق وواجبات الدول في عام 1933 إلى تعريف الدولة بأنها: "مساحة من الأرض تمتلك سكانا دائمين، إقليم محدد وحكومة قادرة على المحافظة والسيطرة الفعالة على أراضيها، وإجراء العلاقات الدولية مع الدول الأخرى".
تبقى الدولة فكرة فلسفية مجردة؛ لأن نشأة المجتمعات السياسية المنظمة ليست معروفة أو موثقة تاريخيا، لكنها قبل ذاك حقيقة سياسية؛ لأن المجتمع الدولي الحالي يتكون أساسا من وحدات سياسية، يحمل كل منها لقب "دولة"، وبلغ عددها اليوم في الأمم المتحدة 193 دولة كاملة العضوية، في حين لم تتجاوز إبان حقبة عصبة الأمم 40 دولة.
عادة ما تلعب الاعتبارات السياسية دورا رئيسا في نشأة واندثار الدول، فعلى سبيل المثال، تغيرت الخريطة السياسية للعالم ثلاث مرات خلال القرن العشرين، فقد أفضت الحربين العالميتين الأولى والثانية إلى اختفاء دول وظهور دول أخرى. فيما أدت حركات مناهضة الاستعمار؛ في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلى حصول عدد كبير من الدول في القارات الثلاث؛ إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية على استقلالها، ومن ثم إلى ظهورها للعلن للأول مرة.
بعيدا عن السجال النظري عن وحول مقومات انبعاث وانهيار الدول، ظلت مسألة البحث والتنقيب في أصول تسميات الدول؛ قديمة كانت أو حديثة، في خانة اللامبحوث فيه، لندرة المراجع التاريخية المهتم بدراسة علم أسماء أماكن (الطوبونوميا) أولا، ولتعدد الروايات؛ حد التضارب أحيانا، بخصوص أصل التسمية الدولة الواحدة ثانيا، وللاستغراق أخيرا في التاريخ العام للدول؛ بأحداثه الكبرى وتفاصيله الصغيرة دون الانتباه إلى مسألة أصل الاسم.
يكشف البحث في أصول أسماء الدول عن عجائب لا تخطر على بال، من قبيل ارتباط تسميات بعض الدول بأسماء شخصيات؛ مثل أمريكا التي يرتبط اسمها بالرحالة الإيطالي أمريكو فيسبوتشي. وأوزبكستان نسبة إلى الزعيم القبلي أوزبك خان. وتعود تسمية كولومبيا إلى المكتشف الإسباني كريستوف كولومبوس. فيما اختارت دولة بوليفيا اسمها، تيمنا بالقائد والسياسي والعسكري الفينزويلي سيمون بوليفار. وارتبط اسم جمهورية الدومينيكان بالقديس دومنينيك. وسميت الفلبين بهذا الاسم، نسبة إلى ملك إسبانيا فيليب الثاني، الذي اختاره المستكشف الإسباني روي لوبيز دي فيلالوبوس خلال حملته في 1542،
قد يحدث أن تكون الجغرافيا سببا وراء التسمية، فإندونيسيا تحيل باللسان المحلي على الجزر الهندية. فيما تعني نيكاراجوا؛ بلغة الأزتيك، المنطقة المحاطة بالماء. أما دولة الإكوادور، فاسمها مرتبط بمرورها في منتصف خط الاستواء. ويعزى اسم الأردن إلى قرب الدولة من نهر الأردن الذي ذكر كثيرا في كتب التاريخ.
بعض البلدان استقت اسمها من الشعوب التي تقطنها، فسميت ألمانيا بهذا الاسم نسبة لقبائل شعوب الجرمان، وبريطانيا نسبة للبريتون، وليبيا نسبة لقبيلة الليبو التي كانت تقطن تلك الرقعة من شمال إفريقيا. القاعدة ذاتها تتكرر في داخل القارة الآسيوية؛ فمعظم البلدان التي تنتهي بكلمة "ستان"؛ وهي كلمة فارسية تعني بلاد، وتحيل إلى اسم الشعب الذي يقطنها، وبذلك تكون أفغانستان هي بلاد الأفغان.
قد يكون أصل الاسم ظاهرة، على غرار الصومال التي يتكون اسمها من جمع ما بين صو (Soo) ومال (Maal)، ومعناهما باللغة الصومالية "اذهب واحلب"؛ وذلك نظرا لكثرة أراضي الرعي في منطقة القرن الإفريقي. وقد يتصل بمعلم مثلما هو الحال في دولة الكويت، وهي تصغير لاسم كوت، أي القلعة المحاطة بسور وخندق.
وتستمر فكرة "الدولة" في إيجاد السجال ليس فقط فيما يخص التطورات التي تطرأ عليها منذ انبثاقها أول الأمر قبل قرون خلت، وإنما في جوانب لا تزال طي النسيان في تاريخها الممتد والطويل.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من السياسية