Author

«بريكست» من جهة أمن أوروبا

|
كاتب اقتصادي [email protected]

"أوروبا خلقت من التاريخ"
مارجريت تاتشر، رئيسة وزراء بريطانية راحلة

يمكن تكذيب توني بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق في كل شيء. فهو لم يترك مسارا ولو ضيقا كي يعبر منه من يصدقه. لكن من الصعب تكذيبه في مواقفه وتوجهاته الأوروبية، ولا سيما في ظل حراك مرير لاستكمال انفصال بلاده عن الاتحاد الأوروبي. ورغم "أمريكية بلير" المرحلية الشهيرة خلال عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن، إلا أن الرجل لم ينظر إلى أوروبا من منظار أمريكي على الإطلاق، على عكس مارجريت تاتشر التي سبقته في رئاسة وزراء المملكة المتحدة. هذه الأخيرة لم تكن ترى العالم أجمع، بما فيه أوروبا، إلا من خلال الولايات المتحدة، ولم تكن ترى لاعبين حقيقيين على الساحة الدولية إلا هذه الأخيرة وبلادها! واللافت أن كل قيادات حزب المحافظين الذين أتوا بعدها، وهم جون ميجور، وديفيد كاميرون، وتيرزا ماي، خالفوها في هذه "الرؤية الأمريكية".
ليس مهما الآن هذه المقارنة. المهم أن توني بلير انتقل من خوفه على مصالح بريطانيا من جراء انفصال بلاده عن الاتحاد الأوروبي، إلى مرحلة رعبه على مصالح أوروبا كلها. فالرجل مقتنع تماما بأن الاتحاد الأوروبي سيضعف بمجرد خروج المملكة المتحدة منه، ليس من ناحية الخسارة الأمنية والدفاعية فقط، بل من جهة فقدانه أهم الركائز التي تصل ضفتي الأطلسي. وبالفعل، بدأت تثار اليوم موضوعات لم تكن تطرح منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، تتعلق بمسألة الدفاع الأوروبي. وعزز هذا الأمر وجود إدارة أمريكية تحاول أن تصل بعزلتها إلى آخر مدى ممكن، وهي عزلة تضرب بديهيات العلاقة بين البلدان الغربية كلها، خصوصا من جهة الدفاع عن القارة القديمة.
فمع وصول دونالد ترمب إلى السلطة، بدأ حديثا علنيا واضحا- كما هي عادته - بأن على الحلفاء أن يدفعوا أكثر من أجل استمرار الوضع الدفاعي الراهن، وسمى ألمانيا، بأنها لا تقدم من الأموال ما يوازي تكاليف "حمايتها". لكن المسألة هنا لا تتعلق بالأموال، علما أن ترمب لا يجد حرجا في وضع بلاده في موضع المحارب من أجل المال لا من أجل القيم. المسألة برمتها ترتبط بمدى التزام الإدارة الأمريكية الراهنة الأدبي والأخلاقي بما اتفق عليه في أعقاب الحرب العالمية الثانية. في مثل هذه الحالة، لا قيمة للأموال، ولا حتى للجهات التي تدفعها، ولكن القيمة الحقيقية هي بقاء الرابط المصيري بين البلدان الغربية التي انتصرت في الحرب الثانية، بقيمه ودلالاته وتأثيراته في الساحة العالمية.
المصيبة الأكبر في هذا المجال، أن تفشل بريطانيا والاتحاد الأوروبي في التوصل إلى اتفاق سلس للخروج، ومعاهدة جيدة مع الاتحاد الأوروبي بعد الخروج. دون أن ننسى، أن نصف أعضاء حكومة تيريزا ماي البريطانية حاليا لا يجدون ضررا من انفصال بلا اتفاق. ما يعني أن كل المخاوف ستكون على الطاولة، انطلاقا من الجوانب التجارية والإجرائية إلى الدفاعية والأمنية. غير أن هذا لا يرضي النصف الآخر من الحكومة المشار إليها، ما أدى إلى نشوب حرب أهلية تحاول رئيسة الوزراء ألا يسمع بها أحد! إلا أنها تظهر في العلن مع كل صراخ يجري وراء الأبواب المغلقة، بما في ذلك التهديد بالتخلص من تيريزا ماي سياسيا، أي بنزعها من زعامة حزب المحافظين نهائيا. والحق أن هذا التهديد بدأ يأخذ شكلا أكثر تقدما، ما سيؤدي إلى انهيار الحكومة الهشة أصلا.
الأمر لم يعد خاصا الآن بالطرفين الرئيسين، بريطانيا والاتحاد الأوروبي فقط، إنه يختص أيضا بمستقبل أمن وسلامة القارة الأوروبية. وما قاله توني بلير، يتحدث به الآن الزعماء المحوريون في الاتحاد الأوروبي ولا سيما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. لن تقف المملكة المتحدة ضد أوروبا بالطبع، فمصير أوروبا من مصيرها، بصرف النظر عن تلك الشعارات التي يطلقها الشعبويون التي تفصل بريطانيا عن القارة التي تحتضنها من ناحية الانتماء! إلى جانب طبعا السياسة الأمريكية الحالية، التي - رغم صراحتها - تنشر الاضطراب السياسي هنا وهناك، فالقضية لا تتعلق بتكاليف الدفاع عن أوروبا، بل بحماية القيم الأوروبية التي من المفترض أن الولايات المتحدة جزء منها.
ليس هناك شيء يشغل أوروبا حاليا أكثر من الانفصال البريطاني عنها. فالمملكة المتحدة ليست اليونان ولا حتى إسبانيا أو البرتغال. إنها محور رئيس أوروبي عالمي. ومن هنا يمكن فهم ما يعلنه أولئك الخائفون من هذا الانفصال، أن الأبواب يجب أن تبقى مفتوحة لبقاء بريطانيا ضمن هذا الاتحاد، وهؤلاء يستندون بالفعل إلى موقف الرئيس الفرنسي المرن، وحتى الموقف الألماني المرن أيضا، الذي لا يزال يأمل في حل لهذه المعضلة. فإيمانويل ماكرون تبع سياسة تحتاج إليها أوروبا الآن أكثر من أي وقت مضى. إنها سياسة البحث عن توافق بين الحركات الشعبوية اليمينية واليسارية. وهذه الحركات استطاعت في الآونة الأخيرة أن تصنع نتائج خطيرة جدا على الساحة الأوروبية، ناهيك عن تلك التي أحدثتها في الولايات المتحدة نفسها.

إنشرها