Author

«مغازلات» أوروبية لبريطانيا

|
كاتب اقتصادي [email protected]

"أنا واضحة جدا، انفصال يعني انفصالا"
تيريزا ماي، رئيسة وزراء بريطانيا

أكثر ما يرعب تيريزا ماي رئيسة الوزراء البريطانية، الحديث عن إمكانية العودة عن قرار الشعب البريطاني الانفصال عن الاتحاد الأوروبي. والشعب هنا ليس كله بالطبع، بل بأغلبيته الضئيلة جدا. وماي -كما هو معروف- كانت مع البقاء في الاتحاد، ولكنها ترغب -وهي من أضعف رؤساء وزراء المملكة المتحدة في التاريخ الحديث- في التأكيد على أنها لا يمكن أن تتجاوز المشيئة الديمقراطية، احتراما لهذه الأخيرة بالطبع، ولكن أيضا تعزيزا صعبا جدا لمكانتها على الساحة السياسية. فهي تقود حكومة أقلية، اضطرتها إلى التحالف مع حزب إيرلندي صغير، بات يتحكم في مصير الحكومة كلها. المهم أن رئيسة الوزراء لا تريد العودة عن الانفصال، رغم أن أي عودة ستتم عبر الوسائل الديمقراطية أيضا، وهناك مبررات لمثل هذه العودة تتسم بالقوة المتجددة كل يوم.
الأوروبيون ما زالوا منفتحين على بريطانيا من ناحية البقاء في الاتحاد، لكن ليس بشروط بريطانية تقليدية. على المملكة المتحدة أن تلتزم بالقوانين والمعايير الأوروبية، ولتبق في الاتحاد إلى الأبد. هم يعرفون أن عملية العودة عن قرار الانفصال "بريكست" ليست سهلة، لأنها تدخل ضمن نطاق قانوني وسياسي وإجرائي ليس معقدا، ولكن يتطلب إرادة حقيقية مع بعض القوى السياسية على الساحة، خصوصا تلك التي حاربت من أجل البقاء، بمن فيهم وزراء كبار في حكومة ماي نفسها، ناهيك عن نواب مجلس العموم الذين يفوق عددهم عدد أولئك الفرحين بإتمام الانفصال. كما أن هناك واجبا ديمقراطيا على الحكومة من أجل التفطير حقا بقرار العودة، لا أن يترك الأمر لرئيسة وزراء تريد أن تبقى في الحكم ما استطاعت.
المثير في الأمر، أن ناجيل فراج أحد أكبر قادة الانفصال الذي عملوا من أجله وانتصروا بالفعل، لم يستبعد العودة عن قرار الانفصال، ليس حبا في الاتحاد الأوروبي بالطبع، ولكن حرصا منه على حسم أمر هذا الخروج إلى الأبد عبر إجراءات ديمقراطية بالطبع. بمعنى "إسكات" أولئك الذين ينشدون البقاء نهائيا. وقدم ديفيد ديفيس الوزير البريطاني المكلف بشؤون "بريكست" واحدا من أكثر التصريحات دلالة بقوله "في حال لم يمكن للديمقراطية أن تغير رأيها، فإنها تتوقف عن كونها ديمقراطية". وهذا صحيح بالطبع، خصوصا إذا ما أخذنا في الاعتبار أن من حق البريطانيين أن يقولوا رأيهم في اتفاق الخروج. فحين صوتوا على الخروج لم تكن أمامهم حقائق في هذا المجال، لاسيما ناحية تبعات الخروج نفسه وتكاليفه الباهظة، ومستقبل العلاقة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي بعد "بريسكت".
رغم ذلك، لا تزال رئيسة الوزراء حادة في موقفها حيال حتى الحديث عن العودة وإن كان وفق القواعد الديمقراطية، ما دفع ديفيد ليدينجتون وزير مكتب رئاسة الوزراء إلى القول "إن تلميحات بعض قادة الاتحاد الأوروبي حول احتمال أن تغير بريطانيا رأيها بشأن الخروج من الاتحاد مضللة". وبات هذا الوزير أشد من رئيسته حيال هذا الأمر، على الرغم من أنه ينشد علنا اتفاقا متميزا مع الاتحاد بعد الخروج، وأطلق عليه "نموذج جديد". لا شك في أن المزايدات على هذا الصعيد تستهدف الحصول على رقعة أكبر من المكانة السياسية على الساحة، فيما تعاني الحكومة ضعفا حولها إلى مثار للسخرية هنا وهناك، خصوصا في ظل وجود "حرب" داخل الحكومة نفسها، بين الوزراء الانفصاليين وزملائهم الاتحاديين.
المفاوضات بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي صعبة، وتزداد صعوبتها كلما تمنى البريطانيون اتفاقا مميزا، ناهيك عن الفاتورة النهائية للخرد التي يجب على لندن دفعها. بعض المدفوعات ستستمر لسنوات مقبلة، وبعضها الآخر يجب أن يسدد على الفور. كل هذا لا يعتبر شيئا مهما فيما لو قورن بشكل العلاقة -لاسيما التجارية- بين الطرفين بعد الانفصال. فهذه النقطة تعتبر محورية أكثر من غيرها، لأنها مرتبطة بعلاقات بريطانيا نفسها مع العالم، فضلا عن طبيعة الامتيازات التي سيحظى بها الطرفان. فالاتحاد الأوروبي لا يمكنه بسهولة أن يقدم لبريطانيا أي امتيازات تجارية، إذا ما كان هناك امتيازات بريطانية في المقابل. ومن هنا، فإن العقبات واردة في المفاوضات في الفترة المقبلة.
الذين يريدون العودة عن قرار الانفصال يعملون ضمن النطاق الديمقراطي بلا شك، فهم مصرون على عرض نتائج الاتفاق المشار إليه على مجلس العموم للتصويت عليه، وأيضا لم يحظ بالأصوات الكافية، فاللوائح الديمقراطية تفرض العودة إلى الشعب مرة أخرى. وهنا النقطة التي يراهن عليها كلا الجانبين. فبعض الانفصاليين يريدون الاستفتاء الثاني للجم أصوات الاتحاديين نهائيا، أمام الاتحاديين يسعون إلى مثل هذا الاستفتاء اقتناعا منهم أن الناخب البريطاني سيصوت هذه المرة منطلقا من حقائق موجودة أمامه ومن اتفاق مكتوب موقع عليه، ما سيدفعه إلى التصويت لمصلحة البقاء. إنها عملية إجرائية، قد تبقي بريطانيا بالفعل ضمن الاتحاد الأوروبي، هذه المرة إلى الأبد أيضا.

إنشرها