Author

صراع الابتكارات .. هل نحن مستعدون؟

|
إذا كان "صراع الحضارات" يستنبت خلافات الماضي، فإن "صراع الابتكارات" يستهدف معطيات المستقبل، وتتزايد حرارة صراع الابتكارات مع تسارع إيقاع التقدم المعرفي، وما يقدمه من اكتشافات وإبداعات وابتكارات. ولعله من المفيد ملاحظة حقيقة أن معطيات الابتكارات تكون مغرية للاستثمار، إذا كانت تلبي احتياجات السوق الظاهرة والكامنة، سواء محليا أو خارجيا. فهي، من خلال ذلك، تمكن المستثمر من جني الأرباح، وتشغيل اليد العاملة. وفي ذلك بالطبع إسهام في التنمية التي تعتمد أساسا على نجاح الأعمال المختلفة. لكن هذا النجاح لا يكون بالضرورة قابلا للاستمرار أمام صراع الابتكارات. فكل ابتكار ناجح يسهم في التنمية يجد نفسه في وقت من الأوقات، قريب أو بعيد، أمام من ينافسه ويصارعه، وربما يفوز عليه، وقد يخرجه من السوق، ما لم يستجب بمرونة للمستجدات، ويعمل على تطوير ذاته دون انقطاع. يسعى هذا المقال إلى إلقاء مزيد من الضوء على ما تقدم. فالابتكار، في عصر التسارع المعرفي، بات ضرورة للتنمية، وضرورة أيضا لمواجهة تحدي ابتكارات الآخرين. ولعلنا، في هذا المجال، نعود إلى المعنى العام الأكثر تداولا لمصطلح الابتكار. فعلى الرغم من وجود مفاهيم وتفرعات متعددة للابتكار مثل: الابتكار التقني، والابتكار الحسي، والابتكار الاجتماعي، وغير ذلك، إلا أن جوهر مفهوم الابتكار يبقى واحدا. ويتلخص هذا الجوهر في أن "الابتكار فكرة يحمل تطبيقها قيمة تعطي فائدة يرغب فيها الآخرون الذين يمثلون سوق هذه الفائدة، وهم مستعدون لتلقيها وتحمل تكاليفها والاستفادة منها". وقد تشمل مخرجات الابتكار سلعا، أو خدمات، أو إجراءات إنتاج، أو طرق تسويق، أو أثرا فنيا متميزا، أو خطة عمل، أو إجراءات اجتماعية، أو غير ذلك مما يحمل قيمة للمستفيدين المستهدفين. على أرض الواقع، وطبقا لرؤية "كليتون كريستينين" Clayton Christensen، أستاذ إدارة الأعمال في جامعة هارفارد Harvard University، هناك أربعة محاور عامة لأي ابتكار حي يحظى بالاستثمار ويسهم في التنمية. يعتمد المحور الأول على أفكار جديدة تعطي مخرجات تحمل قيمة لقطاع معين من المستفيدين، أي من السوق المستهدفة؛ ويمكن أن ندعو هذا المحور: محور ابتكار "الجدة". ويرتبط المحور الثاني بأفكار تطويرية تعمل على تحسين خصائص مخرجات الأول والاحتفاظ بالسوق واستمرار النجاح فيها؛ ويمكن أن نسمي هذا المحور: محور ابتكار تطوير الجودة. ومحور ثالث يتعلق بأفكار إنتاجية تهتم بكفاءة أساليب إنتاج مخرجات الأول لتقديمها بسعر أقل يسعد المستفيدين، وربما يزيد من حجمهم، ويعزز نجاح المخرجات؛ ولعلنا ندعو هذا المحور: محور ابتكار تطوير الجدوى. ثم هناك بعد ذلك المحور الرابع، وهو محور ينفصل عن تكامل المحاور الثلاثة السابقة، ليعطي مخرجاته الخاصة المماثلة وظيفيا لمخرجات الابتكار الرائد ولكل بشكل أبسط ومواصفات أدنى، وتكاليف منخفضة تستهدف مستفيدين جددا، وسوقا أوسع؛ ولعلنا ندعو هذا المحور، محور الابتكار "الجامع". تواجه مخرجات محاور الابتكار هذه صراعات مختلفة على النجاح، والاستمرار في دورها في السوق وجني الأرباح وتحقيق التنمية وتعزيز استدامتها. محور ابتكار "الجدة" الذي تطلقه أي مؤسسة، يفقد تدريجيا جدته لتصبح المعرفة بشأنه شائعة، ويلقى نتيجة ذلك "مؤسسات موازية" منافسة تعمل على إنتاج ما يكافئه، محاولة انتزاع السوق منه. وينطلق الصراع بين المؤسسات على مخرجات هذا الابتكار بسلاح كل من الجودة بشتى مقاييسها، والجدوى التي تحد من التكاليف. وهناك أمثلة عديدة في حياتنا على الابتكارات التي تمتعت بجدة مخرجاتها في البداية، ثم باتت مخرجاتها شائعة تتصارع على الجودة والجدوى. الابتكار الجامع، الذي يدعوه كليتون كريستينين بالابتكار "المعرقل" Disruptive، يهتم بتقديم مخرجات تماثل وظيفيا مخرجات معروفة، لكنها مبسطة عنها وأقل تكلفة، وتتميز بفتح أسواق جديدة لمستفيدين جدد، خارج إطار السوق المستهدفة من قبل مخرجات ابتكار "الجدة" الأولى سابقة الذكر. لكن المخرجات المبسطة هذه تتطور تدريجيا لتصل إلى مستوى مخرجات الجدة الأصلية والمتطورة فتغزوها في سوقها، لتعرقل عملها، وربما تبعدها عن العمل. شركات السيارات اليابانية بدأت في الخمسينيات والستينيات بسيارات بسيطة محدودة التكاليف، فتحت من خلالها أسواقا جديدة خارج إطار سوق السيارات الأخرى؛ ثم تطورت لتغزو سوق السيارات بأكملها وتسبب أزمات لشركات السيارات العالمية الكبرى. ويبدو أن السيارات الكورية، التي أتت بعد ذلك، قد أخذت المنحى ذاته؛ ونشهد مثل ذلك اليوم مع السيارات الصينية. لم يقتصر أمر الصراع الناتج عن الابتكار الجامع والمعرقل على سوق السيارات، بل شمل أسواقا أخرى، مثل سوق الإلكترونيات، وسوق الحاسوب، وغيرها. فظهور "الترانزستور" وأجهزته الإلكترونية الأولى البسيطة، والمحدودة التكاليف، في الستينيات من القرن الماضي عرقل، بعد تطوره التدريجي، شركات الإلكترونيات التي كانت تعتمد على الصمامات الإلكترونية. ثم حدث مثل ذلك أيضا مع ظهور الحاسوب الشخصي في الثمانينيات من القرن الماضي الذي كان في بداياته أدنى أداء من الحواسيب الكبيرة، ثم تطور ليعرقل في التسعينيات شركات الحاسوب التي كانت تنتج حواسيب أكبر، ويقضي على بعض منها، كما حدث بشركات كانت ناجحة مثل "ديجيتال" Digital و"برايم" Prime. نحن في تطلعاتنا نحو التنمية نحتاج إلى الدخول في صراع الابتكارات، نحتاج إلى مبتكرات "الجدة والجودة والجدوى"؛ ونحتاج أيضا إلى المبتكرات الجامعة الفاتحة لأسواق جديدة والمنطلقة في تطور مستمر نحو التنافس مع الكبار. والوسيلة الأولى إلى ذلك هي عقلية الابتكار التي تحتاج إلى ترسيخ ثقافة التفكير في مناهج التعليم، والخروج من قوالب التلقين؛ فحتى برمجة الآلة انتقلت من برمجة التلقين إلى برمجة منفتحة تمكن الآلة من التعلم، لتنتج الذكاء الاصطناعي. أما الوسيلة الثانية فهي توجيه ثقافة التفكير في البحث العلمي ليس فقط نحو تقديم معرفة جديدة غايتها النشر العلمي، بل أيضا نحو أساليب تطبيق هذه المعرفة وتحويلها إلى مبتكرات تحمل قيمة يمكن الاستفادة منها. والوسيلة الثالثة هي الاستثمار في المبتكرات عبر رأسمال جريء يدرس الجدوى بروح العمل والتفاؤل ويتقدم. والوسيلة الرابعة هي التواصل الإيجابي بين أصحاب العلاقة والعمل المشترك فيما بينهم. العالم مملوء بالابتكارات المتصارعة من أجل كسب السوق وتحقيق التنمية، ومفتوح أيضا إلى المزيد، فهل نحن مستعدون؟
إنشرها