Author

المباريات مع التجار .. الفرق بين العنيد ومن يريد أن يكون عنيدا

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
مع إعلان ضريبة القيمة المضافة وبدء تطبيق عدد واسع من الرسوم ورغم كفاية التفسيرات الاقتصادية والاجتماعية تبقى هناك احتمالات لاستغلال التجار للوضع الراهن، مثل رفع الأسعار بأكثر مما يتطلبه تعويض الرسوم وسيناريوهات أخرى لا تقل خطورة مثل تخفيض الأسعار للسيطرة وإخراج المنافسين وهذا له آثار اقتصادية خطرة بعيدة المدى بسبب خروج الكثير من السوق وخفض تكلفة العمل بخفض الأجور، وهنا أتساءل هل كانت هناك استراتيجيات معلنة وواضحة من قبل الوزارات المعنية لمنع التجار والشركات من هذه الممارسات الاستغلالية (حتى إن بدت في ظاهرها تعاطفا مع المجتمع)؟ لقد رصدت مظاهر استغلال بعض التجار للوضع الراهن منذ اليوم التالي لإعلان تطبيق الرسوم والضرائب، (انظر تقرير "الاقتصادية" يوم الخميس الرابع من كانون الثاني (يناير) 2018) فبعض المؤسسات رفعت الأسعار بنسب تصل إلى 10 في المائة خلاف سعر الضريبة، على أساس ارتفاع أسعار المواد الخام، (لم تكن هناك توقعات رسمية معلنة مسبقا، وهناك مشاهدات أخرى عن خفض الأسعار بطريقة درامية بحجة التعاطف مع المستهلكين وتحمل الضريبة بدلا عنهم (وهي في حقيقتها حرب أسعار)، وهذا يدل على استعدادات بعض التجار والشركات للاستفادة من التغيرات الراهنة ليس للبقاء فقط، بل لتحقيق مستويات ربحية أو حصص جديدة في السوق. ويبقى السؤال هل فعلا كانت لدى الوزارات المعنية بمراقبة التجارة والأسعار استراتيجية حقيقية وكافية لإقناعهم بعدم القيام بممارسات تخل بالاقتصاد وتركيبة الأسواق مع تطبيق ضريبة القيمة المضافة؟ وهل كان يكفي مجرد إنشاء لجنة للمراقبة حتى يشعر أولئك بضرر قراراتهم واستغلال الفرصة لتحقيق مكاسب أعلى، وتغليب مصالحهم الشخصية على مصلحة الاقتصاد ككل؟ وهل فعلا نجحنا في تحجيم رغبة التجار من الاستفادة من الوضع الراهن في تأسيس مناطق سعرية جديدة؟ المقال محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة. توماس شيلينج هو اقتصادي أمريكي حاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد، وألف كتابا رائعا عن استراتيجية الصراع The strategy of Conflict، وعلى الرغم من أن موضوع الصراع قضية ضخمة في علم الاجتماع، لكن إبداع توماس شيلينج جاء بربط هذا الموضوع الشائك جدا بنظرية المباريات أو نظرية الألعابGame Theory.ونظرية المباريات هذه تسري في جميع تصرفاتنا وحياتنا وفهمها ضروري قبل تبني التشريعات التي تتعلق بالضرائب وبعدها أو بتلك التي تتعلق بالعقوبات أو الغرامات، وهي جزء من التربية. ومن المستغرب جدا أننا لم نؤسس مراكز علمية ومعاهد أبحاث متخصصة في هذا الشأن تمد أصحاب القرار بكثير من المعلومات وتدعم القرار، وهنا من المهم لفت الأنظار حول موضوع رائع جدا جاء في ثنايا الكتاب ويمس موضع المقال وهو "الإقناع". فعند توماس شيلينج يعد "إقناع" الطرف الآخر (التجار في هذا المقال) بأن من مصلحته الامتناع عن التصرف بطريقة معينة جزءا من نظرية المباريات. "إقناع" الطرف الآخر بأن امتناعه عن التصرف بطريقة معنية يعد في مصلحته "يجب" أن يتضمن بين ثناياه "ردعا" – أي تهديدا بأن التصرف بالطريقة غير المرغوبة سيتسبب له في عقوبة. هنا تظهر نظرية المباريات، فالردع والإقناع عبارة عن مباراة (Game)، وكي تتحقق الأهداف المرجوة من المباراة يجب (أولا) أن تكون مقنعا وأن يكون تهديدك رادعا وذا مصداقية. ففي مباراة بين طرفين فإن تطوير أحدهما لتهديدات غير رادعة أو لا يستطيع تنفيذها لن تجعله مقنعا ولن يؤثر أبدا في قرارات وقناعات الآخر. لهذا يجب أن تصل الرسائل إلى الطرف الآخر بالذات واضحة وقوية جدا بأن التهديد سيتم تنفيذه بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى. لكن يجب أن نفهم وبعمق هنا (وهذا ثانيا) طريقة إقناع الطرف الآخر قبل صناعة التهديد ومدى معرفته بالاختيارات المتوافرة لدينا، فتهديد غير رادع وضعيف مثل تهديد بالتدمير الشامل كلاهما يفقد مصداقيته ولا يمكن عندها إقناع الطرف الآخر بالتصرف وفق ما نرغب، وبدلا من ردعه تم تحفيزه، بهذا يصل توماس شيلينج إلى أن الإقناع في نظرية المباريات يجب أن يتضمن التهديد باستخدام القوة المحتملة المؤثرة الممكن تنفيذها، وأن يكون هذا التهديد ملزما لنا. وهنا تظهر مصداقية التهديد في مهارة قدرة الطرف المهيمن على إلزام نفسه بتنفيذ تهديده، وإلا سيفقد زمام الهيمنة على المباراة. يتطلب الإقناع الناجح أن يكون هناك اختلاف أو مصلحة مشتركة في آن معا وهذا (ثالثا). فلن ينجح الإقناع عند الاختلاف فقط فيتحول إلى نزاع (وسوف يختار كل طرف الحرب، كما في خطورة المشهد الكوري الشمالي المقلق الآن، وعندما تكون هناك مصلحة فقط فإن كلا الطرفين سيختار المصلحة فلا حاجة إلى الإقناع في كلتا الحالتين، لكن عندما يكون هناك اختلاف ومصلحة مشتركة بين الطرفين فإن الإقناع هو الذي يؤثر في خيارات الطرف الآخر بأن يتم تقديم دليل يجب تصديقه أن تصرفاتنا ستكون بناء على تصرفاته، فإذا اختار المصلحة المشتركة قمنا باختيارها، ولم يتم تنفيذ التهديد، أما إذا اختار الاختلاف فإننا سوف ننفذ تهديداتنا حتما. وهكذا تظهر المباراة بشكل واضح وتكون فعالة مع تقييد الطرف الآخر من خلال توقعاته بعواقب أفعاله. هنا نصل إلى رائعة من روائع نظرية المباريات، وهي "التواصل". ولعله من الواضح جدا أن قناعة الطرف الآخر تتطلب وصول معلومات واضحة إليه وصريحة جدا بشأن التهديد والسلوكيات المطلوبة منه لتجنب تنفيذ التهديد. وهنا من المهم فهم العلاقة بين العقل وبين نظرية المباريات، فقد يكون من المناسب (خارج ما يمليه العقل) تقييد نفسك بأمر وتدمير جميع خياراتك الأخرى "باختيارك وبيدك" حتى تقيد الطرف الآخر في الوقت نفسه وهذا يجعل التهديد فعالا فلا خيارات أخرى أمامك وهو يعلم ذلك جيدا، ذلك أن مثل هذا الإجراء يجعل المساواة معدومة، والفرق واضح هنا بين من يريد أن يكون عنيدا وبين العنيد فعلا. في ظل هذه النظرية وتفسيراتها، وفي ظل نتائج استراتيجيات التجار بعد فرض الضريبة والرسوم، أقول إن استراتيجية الوزارات ذات العلاقة لم تكن تتناسب حتى هذه اللحظة مع توقعات التجار، وأنه يجب تطوير أساليب أقوى وأكثر ردعا لمنع التجار من استغلال الوضع الراهن وفق ما تمليه هذه النظرية لمنعهم من إرباك المشهد الاقتصادي لدينا.
إنشرها