Author

هل ستنقذنا «الخوارزميات»؟

|
أستاذ جامعي ـ السويد
لم تكن للأرقام أهمية مثلما هي عليه اليوم. الرقم تقريبا أصبح كل شيء في حياتنا. وعصرنا هذا بحق صار عصر الثورة الرقمية، الذي تنظمه لنا مجموعة قواعد وخطوات حسابية دقيقة. والعرب والمسلمون اليوم على هامش هذه الثورة الرقمية العجيبة. بيد أنهم قلما يعرفون أو يتذكرون أنهم أول من وضع لبناتها وابتكر قواعدها، ولولاهم لتأخر قدومها ربما عدة قرون. العالم مدين وهو يجني ثمار الثورة الرقمية لعالم عربي مسلم اسمه محمد بن موسى الخوارزمي. ومصطلح algorithm "لوغاريثم أو خوارزمية" مشتق في اللغة اللاتينية واللغات الأوروبية لا بل لغات العالم أجمع من اسمه. لن أدخل في التفاصيل التاريخية لحياة ونبوغ واحتضان الخليفة العباسي المأمون لهذا العالم البارز، الذي ترك بصمات له في علوم الرياضيات والجبر والجغرافيا والفلك لن تمحى مدى الدهر. فيكفيه فخرا ومعه الحضارة العربية والإسلامية أنه وضع أسس علم اللوغاريثم "الخوارزمية"، ومنه تعلم العالم بناء الخطوات الحسابية لحل المعضلات والمشاكل الحياتية التي تواجهنا التي تتكئ على مبادئها وفرضياتها شركات التقنية الفائقة في سيليكون فالي في أمريكا مثلا، وتغزو العالم بمنتجاتها الرقمية. وكانت بغداد في عهد الخوارزمي منارة العلم والمعرفة. وفي عهد المأمون، صارت بغداد بمنزلة سيليكون فالي، تجذب إليها العقول النيرة من كل حدب وصوب من العالم الإسلامي المترامي الأطراف في حينه. وهكذا شد الخوارزمي الرحال إلى بغداد من موطنه في خوارزم، جمهورية أوزبكستان الحالية، ولقي لدى المأمون كل الترحاب ومنح من المكانة والجاه ما يتناسب وعلمه الغزير. تذكرت هذا العالم العربي المسلم الجليل بعد قراءتي تقارير تتحدث عن أن الشركات الرقمية العملاقة التي قد تساوي قيمتها السوقية ميزانية قارة مثل إفريقيا بأكملها أخذت تستنجد بالخوارزمية (شخصيا أفضل مصطلح الخوارزمية عند الكتابة بالعربية على اللوغاريثم) لاستنباط أنظمة رقمية وحسابية للتحقق من مصداقية الأخبار المتداولة في عالم التواصل الاجتماعي. الخوارزمية خلقت مشكلة الأخبار المزيفة، وشخصيا لا أظن أنها ستنقذنا من هذه المشكلة العويصة التي بواسطتها صار لتداول المعلومات المفبركة قصب السبق في مواقع التواصل. وقد لا نجافي الحقيقة إن قلنا حتى الإعلام الرئيس بدأ يعاني شيوع الأخبار المزيفة، لأنه كثيرا ما يستند في جمع المعلومات إلى ما هو متوافر منها على صفحات التواصل. بالطبع لا يقع اللوم على الخوارزمية لانتشار واستفحال ظاهرة الأخبار المزيفة. المشكلة ليست خوارزمية (تقنية أو رقمية)، بل إنها مشكلة اجتماعية وثقافية. الخوارزمية تنظم لنا التواصل وتجعله متاحا وفي متناول أي واحد منا، ولكن الأرقام بحد ذاتها لن تستطيع التأثير في ميولنا وعواطفنا ووجهات نظرنا. نحن نوجه بوصلة الخوارزمية صوب الوجهة التي تتطابق مع ميولنا. والثورة الخوارزمية (الرقمية) التي نعيشها لم تلغ غرائزنا الفطرية كبشر بل عززتها. فرغم الكم الهائل من المعلومات التي في الإمكان الوصول إليها من خلال نقرة واحدة على تطبيق محدد في أي جهاز ذكي، ترانا دائما نهرع صوب المعلومة التي توائم وجهات نظرنا وميولنا. الطبيعة البشرية عرضة للحسد والأنانية والنزعة القبلية الساذجة، والثورة الخوارزمية حصنت هذه النزعة ورسختها بدلا من لجمها. ووطدت هذه الثورة الصفات البشرية التي تجعلنا نتشبث ونصدق ما نراه طبيعيا ومألوفا لدينا، ونتجنب ما نراه يعاكس وجهات نظرنا غير مبالين إن كان ما نتعامل معه موثوقا أو صادقا أم لا. هناك سوق للأخبار الكاذبة التي هي البضاعة الرائجة على شبكات التواصل. ولكن ليست هناك سوق للصدق؛ لأن الصدق ليس بضاعة أو عملة بإمكاننا التحقق من كونها مغشوشة أو مزيفة أم لا. وسيبقى الوضع على ما عليه، لا بل أكاد أجزم أنه سيزداد سوءا؛ لأن الخوارزمية في طريقها إلى قفزات خيالية أخرى ستزيد من طين الأخبار المزيفة بللا. هناك هوة كبيرة بين الخوارزمية والواقع الاجتماعي الذي نعيشه. الاثنان لن يلتقيا لأنني لا أظن أن الثورة الرقمية ستفلح في تغيير سعادتي إلى حزن عند مروري على معلومة أو خبر يؤكد ويبرهن وجهة نظري ويعزز ميولي.
إنشرها