Author

أساطير العصر الصناعي تهاوت في عصر المعلومات

|

بينت في سلسلة مقالات سابقة العصور التي مرت بها البشرية بداية من عصر العبودية، فالعصر الزراعي، ثم العصر الصناعي، فعصر المعلومات العصر الذي نعيشه الآن. عصر العبودية كان ينظر إلى الإنسان على أنه سلعة تباع وتشترى، ثم انتهت فكرة السيد والعبد، وحلت محلها تركيبة مختلفة وهي الملك، والنبلاء، والفلاحون في عصر الإقطاع أو العصر الزراعي. ثم نشأ عصر السوق الحرة وأصبح هناك ادخار واستثمار، ونشأت البنوك، وشركات التمويل. ويطلق على هذه الفترة من 1492 إلى 1989، العصر الصناعي الذي تحرر فيه كل شيء "رأس المال، والأرض، والعمل" عدا الإنسان الذي ما زال عبدا. فقد كان هناك عبد بالشراء في عصر العبودية، وعبد للأرض "أقنان الأرض" في عصر الإقطاع، وعبد للوظيفة في العصر الصناعي.
ومنذ بداية التسعينيات من القرن الماضي إلى الآن دخل العالم من حيث يدري ولا يدري عصرا جديدا مختلفا عن العصور السابقة يطلق عليه "عصر المعلومات". وهذا العصر له خصائص وملامح تختلف عن بقية العصور، منها ما هو ظاهر كالتسوق الرقمي، ومنها ما هو خفي يجهله الناس.
ونريد أن نلقي الضوء على أهم هذه التغيرات التي ظهرت في هذا العصر الذي نعيشه، عصر المعلومات، خصوصا أن كثيرين يرون أنها من المسلمات؛ لأنها حفرت في عقولهم، وترسخت في أذهانهم حينما ورثوها كمعرفة غير موثقة ممن كان قبلهم، وما زالوا يتعاملون معها، ويؤمنون بها كأنها تنزلت عليهم من السماء.
من القناعات البالية التي توارثها الناس من العصر الصناعي امتلاك منزل بمواصفات وجودة عالية؛ ليبقى مقر الأسرة عبر الأجيال. إن مصطلح "بيت العمر" أو "بيت الأجيال" فكرة انتهت وولت مع العصر الصناعي؛ نتيجة سرعة الحياة وتغير تكنولوجيا العصر وسهولة الاتصال بالعالم وكثرة الأسفار، فالعصر الذي نعيشه يناسبه منزل فيه متطلبات الحياة الضرورية دون مبالغات، خصوصا أصحاب الدخول المتوسطة وما دونهم؛ لأن العمر الافتراضي للأدوات المستخدمة في البناء والتشييد قل، ولم تعد ذات جودة عالية كما كانت في العصر الصناعي، ولهذا فالدور والمنازل في عصر المعلومات تحتاج إلى صيانة دورية وتجديد متتابع، وهذا يستنزف مبالغ طائلة من ميزانية الأسرة، وبهذا فأسطورة امتلاك بيت العمر تهاوت ولم يعد لها وجود، رغم أن البعض لا يزال متمسكا بهذه الفكرة.
من القناعات البالية أيضا التي انتهت وما زال الناس متشبثين بها عادة الادخار، التي كانت المصدر الرئيس للثروة إبان العصر الصناعي، ليس للأفراد فحسب، بل حتى للشركات والمنظمات. لقد كان ينادي خبراء المال بتنمية عادة الادخار في العهد الصناعي وهذا منطقي؛ لأن المال يدخر نقودا لها قيمة، أما الآن فقد تغير الأمر، فالأموال التي بين أيدينا ليست نقودا، بل هي أوراق، فعندما تدخر فإنك تدخر أوراقا ليست لها قيمة، تأكل الفائدة جزءا من المال، والتضخم يأكل الجزء الآخر، كما أن للضريبة نصيبا وافرا منه. وموضوع الادخار يقودنا إلى القروض، فقد كان ينادي الاقتصاديون وخبراء المال في العصور السابقة، خصوصا في العصر الصناعي، إلى تجنب القروض والحذر منها؛ لأنها تقود إلى الفقر والعوز. ولكن الأمر اختلف في عصر المعلومات - العصر الذي نعيشه الآن- فالقروض مصدر قوي من مصادر الحصول على الأموال للشركات والأفراد على حد سواء إذا أحسنت إدارتها واستخدامها.
ولم يقتصر التغير الذي حدث في عصر المعلومات على النواحي الاقتصادية للدول والأفراد، بل وصل إلى الاهتمامات والهويات والمتع كذلك. فما كان في السابق قاسيا وشاقا وعذبا أليما أصبح الآن ممتعا ومسليا ومشوقا كالسفر الذي كان في العصر الزراعي والعصر الصناعي شاقا وقاسيا ومكلفا، أما الآن فقد أصبح ممتعا وميسرا وسهلا، ويسعك أن تعبر قارات العالم وتبقى في رحلتك أياما وتصل إلى وجهتك في أقصى الأرض وأنت مكتمل القوى مبتسم المحيا.
هذه بعض التغيرات وبالتأكيد هناك الكثير، ولكن إلى أين سيصل بنا هذا التغيير؟ وماذا سيكون عليه المستقبل المنظور؟ من التوقعات التي ستتغير- والله أعلم - أداة المقايضة فستحل البطاقات الممغنطة محل العملات، وقد تطوف العالم طولا وعرضا دون أن تحمل معك عملة ورقية واحدة، وقد تعود وأنت تجهل عملة البلد الذي عشت فيه أسابيع أو شهورا. كما يتوقع أن تتهاوى شركات عملاقة بقيت مئات السنين وتحل محلها مشروعات فردية متواضعة الأصول قليلة الإمكانات، مهمتها تقريب المنتفعين بعضهم من بعض مثل "بوكنج" و"أوبر" وغيرهما من الوسطاء.
كما أن معيار القوى الذي يحكم العالم سيتغير هو أيضا وستدخله المعرفة بحلة جديدة تؤصل للمصدر القوي للعصر وهو المال والثراء. وبهذا سيتغير ميزان القوى، فالنبوءات تقول إن القوة العظمى التي ستحكم العالم عام 2050 هي الصين تليها الهند ثم الولايات المتحدة ثم إندونيسيا، حسب تقرير صحيفة الإندبندنت البريطانية ونقلتها "العربية نت". كما أن بريطانيا التي تريد هذه الأيام الخروج من الاتحاد الأوروبي ستهبط إلى المركز العاشر بعد أن كانت تحتل المركز الخامس بين الكبار منذ عام 2016.
وأريد أن أختم فأقول إننا يجب أن ندرك مثل هذه التغيرات حتى لا يسبقنا العالم إليها ثم نكيف حياتنا معها ونعيد حاسباتنا ونعيد تقييم قناعاتنا لتتفق مع متطلبات عصر المعلومات.

إنشرها