Author

الأمم المتحدة .. الميزانية المهددة دائما

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"الأمم المتحدة تبقى أملنا الوحيد في السلام وتحرير العالم" رالف بونشيه، أكاديمي أمريكي راحل، حائز جائزة نوبل للسلام لم يكن دونالد ترمب الرئيس الأمريكي الأول الذي يسعى إلى تقليص ميزانية الأمم المتحدة وتحديدا تقليص مساهمة بلاده فيها. لكنه يبقى الأول في كونه أكثر جدية في هذه المسألة، تماماً كما كان أكثر جدية في قضايا أخرى لم يمسها أسلافه في البيت الأبيض، التي كان آخرها اعتراف إدارته بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل. المهم أن الإدارة الأمريكية الحالية، تعمل بكل ما تملك من قوة وتأثير من أجل تحقيق هدف تقليص إنفاق الأمم المتحدة، بصرف النظر عن البرامج والمشاريع الإنمائية المتعددة التي تقوم بها المنظمة الدولية. وهذا التوجه يلقى تأييداً كبيراً، لاسيما من أنصار الرئيس الأمريكي ضمن دائرته الحاكمة، وفي أوساط أولئك الذين منحوه أصواتهم لقيادة البلاد. فما يطرحه حق وطني أمريكي، بعيدا عن الآثار السلبية التي قد يتركها هذا الطرح هنا وهناك على الساحة العالمية. اللافت، أن الإدارة الأمريكية تريد تخفيض ميزانية الأمم المتحدة بواقع 250 مليون دولار، ليضاف ذلك إلى مخطط التخفيض الذي بدأه بالفعل الأمين العام أنطونيو جوتيريش، ويقدر بنحو 200 مليون دولار. ولو تكللت جهود واشنطن في النجاح، فإن المنظمة الدولية ستخفض قرابة نصف مليار دولار من ميزانيتها، الأمر الذي تنظر إليه جهات دولية، بما فيها غربية، على أنه "مصيبة"، لأنه ذلك سيؤثر مباشرة بصورة سلبية في مشاريع الأمم المتحدة، وبرامجها التي تستهدف بعض المناطق المحتاجة حول العالم. لكن لن يكون الأمر بهذه "الدراما" تماماً، إذا ما استهدف التخفيض المشار إليه مجالات ليست محورية، خصوصاً تلك التي ترتبط بالجوانب البيروقراطية، المستهلكة للأموال. ويعترف أشخاص من قلب الأمم المتحدة، بوجود مصروفات إدارية لا معنى لها حقاً. غير أن ما رشح عن مساعي التخفيضات، أنها تستهدف، من ضمن ما تستهدف، البعثات السياسية في كل من ليبيا وأفغانستان، إضافة إلى مكتب حقوق الإنسان الفلسطيني وخدمات التواصل. وهناك من يقول، إن هذه البعثات متخمة بالفعل بالأعباء المالية الإدارية، ويمكن العمل بنصف الهيكل الإداري فيها على الأقل دون أن يتأثر حراكها. وقد يكون هذا الكلام صحيحاً، خصوصاً بعدما ثبت حقيقة أن أموالاً للأمم المتحدة في عدة مناطق حول العالم امتصت التكاليف البيروقراطية نسبا كبيرة منها. تعاني الأمم المتحدة منذ سنوات عدم تطبيق إصلاحات إدارية فيها، بما في ذلك تلك الخاصة بالمقر الرئيس لها، والأمين العام الحالي لها، وضع منذ وصوله إلى منصبه قبل عام تقريباً هذا الأمر ضمن أولوياته، وعليه أن يطرح المخططات المقنعة لكل الممولين للأمم المتحدة، وهذا، كما هو معروف، من حقهم. على كل حال، لا يمكن وصم الإدارة الأمريكية الحالية بالتفرد في التحرك لتخفيض ميزانية الأمم المتحدة، ولا حتى بالحديث عن الخفض. فقد اعتادت البلدان الغربية، لاسيما دول الاتحاد الأوروبي طرح الأمر في كل مناسبة ممكنة. والسبب معروف هو أنها تقدم الدعم المالي الأكبر على مستوى العالم إلى جانب الولايات المتحدة لهذه المنظمة. ولذلك لا عجب أن يطرح الاتحاد الأوروبي أخيراً خطة لخفض الميزانية بحدود 170 مليون دولار، ما يعني أيضاً أنه لو تم جمع مقترحات واشنطن والأوروبيين والأمين العام للخفض المالي، فإن الميزانية العامة ستخسر قرابة 650 مليون دولار. المطمئن هنا، أن الميزانية التشغيلية للأمم المتحدة منفصلة عن ميزانية قوات حفظ السلام، ما يؤكد مجدداً أنه يمكن استهداف المصروفات الإدارية، وعدم المساس بالجانب التنفيذي الحقيقي على الأرض. التناغم الأمريكي الأوروبي حول الخفض المذكور يستند إلى حجم المساهمات الكبيرة التي يقدمونها فالولايات المتحدة ترفد الأمم المتحدة بـ 22 في المائة من ميزانيتها، وتحتل بلدان الاتحاد الأوروبي الرئيسة (فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، إيطاليا، إسبانيا) المراكز الأولى في هذا المجال أيضاً. وهذا ما دفع أحد الدبلوماسيين الغربيين للقول: "هذه لعبة كلاسيكية. هناك دائماً معسكران الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يريدان خفض الميزانية، وباقي الدول لا تريد". وهذا صحيح، لكن إذا ما تم تطبيق الخفض المشار إليه بصورة عملية وإيجابية، فإن التأثيرات السلبية له لن تكون واسعة المهم أن تكون هناك حرفية حقيقية في عملية التطبيق إذا ما تم الاتفاق على الخفض المقترح أصلاً. تصل أقل مساهمة في ميزانية المنظمة إلى 0.001 في المائة، لتبلغ 22 في المائة حصة الولايات المتحدة. بينما تسهم اليابان بـ9.68 في المائة، والصين 7.92 في المائة، إلى جانب دول أوروبية رئيسة. وفي المجموع تمول 20 دولة 83.78 في المائة من ميزانية المنظمة المذكورة، في حين تمول 173 دولة 16.22 في المائة منها. والفارق هائل بين طرفي الموازنة. يمكننا فهم تحركات المساهمين الكبار للحد من الميزانية، على الرغم من أن حكوماتهم لا تتعرض مثلاً إلى أي ضغوط شعبية بهذا الخصوص، على اعتبار أن للكبار واجباتهم، مثلما لهم امتيازاتهم أيضا.
إنشرها