Author

فرص الفساد بين دورتين اقتصاديتين

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى

في خطاب خادم الحرمين الشريفين خلال افتتاح أعمال السنة الثانية من الدورة السابعة لأعمال مجلس الشورى، أكد أن الفساد بكل أنواعه وأشكاله يعتبر آفة خطيرة وأن الملك - رعاه الله - قد عقد العزم على مواجهته بعدل وحزم كي تنعم بلادنا بالنهضة التي يرجوها كل مواطن. ورغم أن الملك قد أشار بكل وضوح إلى أن المتورطين في الفساد هم قلة قليلة لكن مفهوم مكافحة الفساد أصبح أولوية لتحقيق التنمية، من هنا يأتي هذا المقال الذي يوضح كثيرا من متطلبات هذه المرحلة. وتؤكد أدبيات البحث في مكافحة الفساد أنه لحدوث الفساد والغش والاحتيال بأنواعه ينبغي توافر ثلاثة عناصر تدفع بمرتكب الفساد إلى القيام به، وهي التبرير المنطقي لدى مرتكب الفساد، والضغوط التي عليه، ثم الفرصة التي تتوافر له من خلال العمل نفسه، وإذا كنا نريد مكافحة الفساد فإنه ينبغي للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد تطوير خطتها الاستراتيجية إلى مستويات تليق بالطموحات وأن تغطي هذه الجوانب الثلاثة معا. في جانب التبريرات المنطقية فأي شخص لديه قابلية التورط في الفساد يبدأ دائما بالبحث عن تفسيرات وتبريرات منطقية تساعده على مواجهة الضمير وأي تبرير هنا سيكون له معقولية دائما حتى إن بدا بخلاف ذلك، وهذه مرحلة تكون مبكرة جدا وليست وليدة اللحظة، فمن يرتكب الفساد يجد في نفسه حوارات طويلة مع الذات ومع الآخرين أحيانا حتى قبل أن تتوافر أي عناصر أو دوافع للفساد، العنصر الثاني هو الضغوط التي تأتي مع الحياة الطبيعية، التي قد يجد فيها مرتكب الفساد دوافع تعزز الفرضيات المنطقية لديه حتى إن بدت للآخرين ضغوطا عادية يمكن مواجهتها، لكن مع التفكير الطويل في معقولية ارتكاب الفساد تصبح أدنى الضغوط دافعا قويا للفساد، لكن هذين العنصرين غير كافيين لارتكاب الفساد، فلا بد أن تكون هناك فرصة في العمل أو في النظام تمكنه من الفساد. وعندما أتحدث عن الفساد كمفهوم مطلق فإنني أقيده هنا في هذا المقال بسوء استخدام المال العام والسلطة من أجل تحقيق مصلحة شخصية فقط. ورغم أهمية اكتشاف وتحليل الشخصية لفهم مرتكبي الفساد لكن هنا في هذا لا يعنيني النقاش حول مبررات الفساد ولا الضغوط التي يقع فيها المتورط فيه، وما يهمني هو مدى وجود فرص الفساد في العمل والنظام، ويهمني أكثر أن تطور هيئة مكافحة الفساد وأيضا ديوان المراقبة العامة أساليب العمل من أجل هذه القضية. في النظام الحكومي مع الأسف لا توجد أي جهة معنية بتحديد مدى وجود فرص الفساد في العمل والنظام، وهنا بالطبع سوف يأتي رد القارئ الكريم بأن هذه مسؤولية هيئة مكافحة الفساد أو ديوان المراقبة العامة، وللحقيقة فلم يكن في نظامهما ما يدل صراحة على تتبع وجود فرص الفساد، ولهذا فإن الأعمال التي تتم حاليا هي من نوع انتظار التبليغات أو أن تمنح إجراءات العمل فرصة الاكتشاف، لكن أهم وأكبر قضايا الفساد في العالم لم تأت من أعمال التدقيق والمراجعة بقدر ما جاءت من قبل مبلغين عنها. وطالما لا توجد خريطة عمل واضحة لمعرفة أين تكمن فرص الفساد ومن ثم تتبع الشخصيات التي تقع ضمن دائرة هذه الفرص، فإننا حتما سوف تصبح أعمالنا مجرد ردود فعل. خريطة العمل من أجل تحديد فرص الفساد سوف تكشف نقاط الضعف المنتشرة في العمل الحكومي، سواء من جانب ضعف نظم الحوكمة نفسها، أو من جانب اللوائح وتطبيقاتها مثل الضعف الذي يظهر لنا في ظاهرة وجود الشركات التابعة لبعض الوزارات التي أصبحت طريقا لتجاوز الكثير من الأنظمة البيروقراطية لكنها أيضا خارج نطاق الرقابة الحكومية، بل خارج مجالات التقارير سواء للعموم أو حتى للجهات الرقابية نفسها، وأيضا نظام المشتريات الحكومية ولوائحه التي أصبح الخبراء بها نقطة ضعف في النظام نفسه، وهذا غيض من فيض فوجود الفرص في العمل والنظام يجعلنا جميعا تحت رحمة التفسير المنطقي لمرتكبي الفساد، ومتى تكون الضغوط كافية. من المهم إدراك أن فرص الفساد تتبدل مع تبدل الظروف الاقتصادية، فما كانت تمثل فرصا للفساد في أوقات الازدهار والنمو والتدفقات النقدية الكبيرة لن تكون هي الفرص نفسها المتاحة في أوقات الركود، ومن يرتكبون الفساد في أوقات الازدهار لن يكونوا الأشخاص أنفسهم أو حتى الضغوط نفسها، ففي أوقات الازدهار قد يكون الأكثر ثراء هم الأكثر رغبة في ارتكاب الفساد، لكن في أوقات الركود قد تكون الطبقة المتوسطة أكثر عرضة لذلك، من هنا تختلف المستويات الإدارية التي سيحدث فيها الفساد، ولهذا فإن الدراسات المتأنية لهذا الموضوع سوف تمنح الجهات الرقابية مجالات أوسع لتحديد نطاق العمل ومن ثم مكافحة الفساد بطريقة تحقق ما أشار إليه خادم الحرمين الشريفين، فالهدف هو إزالة كل العوائق أمام التنمية والنهضة الشاملة.

إنشرها