FINANCIAL TIMES

الشفافية تضرب تنافسية مصارف سويسرا في مقتل

الشفافية تضرب تنافسية مصارف سويسرا في مقتل

الشفافية تضرب تنافسية مصارف سويسرا في مقتل

مظهر لوران جانيبان لا يتناسب مع الصورة التقليدية للمصرفي السويسري الخاص. قبل 15 عاما، كان يعمل مديرا في فندق فخم في جشتاد. وهو الآن يضع مهاراته في مجال الضيافة، للعمل رئيسا لمصرف روتشيلد الخاص في سويسرا.
يتذكر جانيبان في مكاتب روتشيلد الأنيقة في ضاحية راقية في زيوريخ، فيقول: "كان لدينا عميل سويسري احتاج إلى محام في طهران على وجه السرعة. في غضون ساعة، كنا قد طلبنا مساعدة زميل في دبي، فكان قادرا على أن يوصي بشخص كان يعرفه جيدا.
كون الشخص مصرفيا سويسريا، فإن كثيرا لا يزال يدور حول إمكانية الحصول على أنواع مختلفة من المساعدة العادية".
التحول الوظيفي لجانيبان يؤكد الضغوط التي يواجهها القطاع المصرفي السويسري. حتى قبل عقد من الزمان، كان العملاء من جميع أنحاء العالم يتوافدون إلى سويسرا، للعثور على موطن متكتم للنقدية التي يريدون إخفاءها عن السلطات الضريبية.
هؤلاء الزبائن لم يكونوا يشعرون بالقلق بشأن العائدات على محافظهم والأرباح كانت سهلة. يتذكر أحد المصرفيين: "كان العملاء يقولون لا تتصل بي، أو أي شيء."
بفضل الحملة العالمية التي تقودها الولايات المتحدة على التهرب من دفع الضرائب، فإن الأيام التي يستطيع فيها المصرفيون السويسريون الازدهار بمجرد مساعدة العملاء الأغنياء على إخفاء الأصول ولت منذ فترة طويلة.
بدلا من ذلك، هم يواجهون عالما عملت فيه القوانين التنظيمية المصرفية الأكثر صرامة، وأسعار الفائدة المنخفضة للغاية، وتقلبات الأسواق المالية، على تقليص هوامش الربح. مجموعات العملاء الأسرع نموا توجد الآن في مواطن بعيدة كل البعد عن هذا البلد الغني في جبال الألب -في الصين والهند غيرها من اقتصادات الأسواق الناشئة- ويهدد التشغيل الآلي بالحد من الحاجة إلى التفاعل البشري.
والنتيجة هي أن الصناعة تنقسم إلى طبقتين. استخدمت مجموعة صغيرة من أكبر المصارف سمعة سويسرا في مجال الخدمات -مثل العثور على محامين في مواقع مغمورة- للتوسع بنجاح في جميع أنحاء العالم.
ومع ذلك، هناك أيضا ذيل طويل من المنافسين المحليين الضعاف الذين يواجهون آفاقا أكبر بكثير من عوامل اللبس.
بالنسبة لكثير من هذه المؤسسات، تثير البيئة الجديدة الصعبة مسألة ما إذا كانت مَواطن القوة التقليدية للمصارف السويسرية ستستمر في منحها ميزة تنافسية - أو ما إذا كنا سنشهد الموت البطيء للمصرفية الخصوصية السويسرية المميزة.
يقول جابور كومارومي، مدير أعلى في شركة كوريكام، مقرها في زيوريخ، وتقدم المشورة للأسر الغنية بشأن مواردها المالية: "لديهم مستقبل، ولكن الأوقات الذهبية هي بالتأكيد وراءهم".
يضيف باتريك أودييه، الشريك المنتدب في شركة لومبارد أودييه: "الضغط على الهوامش سوف يعمل بسرعة كبيرة على إخراج الشركات الأقل كفاءة والأقل تنافسية".
تسيطر سويسرا على أعمال حماية واستثمار ثروات أغنى أغنياء العالم، حتى وإن ظل مبلغ 6.7 تريليون فرنك سويسري (6.8 تريليون دولار) في الأصول الخاضعة للإدارة في الصناعة السويسرية أقل من ذروته في عام 2007.
على مدى السنوات الثلاث الماضية، ظل مستوى الأصول الخاضعة للإدارة ثابتا على الرغم من المكاسب القوية في كثير من الأسواق العالمية. كما أن سويسرا هي موطن اثنين من أكبر المصارف في أوروبا: وهما: يو بي إس وكريدي سويس.
لا تزال الحسابات المصرفية السويسرية جذابة لكثير من الأغنياء في العالم - ويعتقد أن عددا كبيرا من الذين وقعوا في قبضة الفساد في مختلف البلدان يخزنون المال في بلد جبال الألب.
في الداخل، فإن الصناعة في تراجع. انخفض عدد المصارف الخاصة السويسرية من 179 في عام 2005 إلى 112، وفقا لأرقام من كيه إم بي جي.
ويتوقع كريستيان هينترمان، رئيس وحدة الاستشارات المالية في وكالة كيه إم بي جي في زيوريخ: "من بين 60 أو 70 مصرفا ضعيفا متبقيا، سيختفي نصفها على الأقل". وهبط هامش الربح الإجمالي في الصناعة بنسبة 12 في المائة منذ عام 2010.
وظفت المصارف في سويسرا العام الماضي 121 ألف شخص -أي أقل بنحو 15 ألف شخص قبل أقل من عقد من الزمان. وعملت المصارف الأجنبية المعروفة، بما في ذلك ميريل لينتش ومورجان ستانلي وكوتس، بالتخلص من فروعها في سويسرا، في السنوات الخمس الماضية.
قال مسؤول كبير في مجال الخدمات المصرفية الخاصة في شركة غير سويسرية: "نقطة البيع الفريدة في سويسرا تتآكل. العملاء سعداء بالقدر نفسه في المملكة المتحدة، أو في هولندا".
كان السبب المباشر لتراجع الصناعة هو حملة على التهرب من دفع الضرائب. تحركت الولايات المتحدة لأول مرة في عام 2008 من خلال إطلاق تحقيق ضمن المصارف، التي ساعدت مواطنيها على التهرب من مصلحة ضريبة الدخل.
منذ عام 2009، دفعت المصارف السويسرية غرامات وتعويضات تزيد على خمسة مليارات دولار أمريكي لأدوارها في مساعدة عملاء أمريكيين على تجنب الضرائب. كما تضررت أيضا بسبب موجة من الغرامات الأصغر في ولايات قضائية أخرى، في الوقت الذي انتشرت فيه حملة الشفافية في مختلف أنحاء العالم.
تبني 50 بلدا في جميع أنحاء العالم قواعد جديدة بشأن الشفافية تدعو إلى التبادل التلقائي للمعلومات بين المصارف والسلطات الضريبية.
بالنسبة لمصرفي يو بي إس وبنك كريدي سويس يترجم ذلك إلى نحو 75 مليار فرنك سويسري من عمليات سحب العملاء بين عامي 2011 و2015. وكان التأثير على الربحية ساحقا: "مثل هذه المهمات تحمل عادة هوامش مجزية للغاية"، كما يقول كينر لاخاني، المحلل في بنك دويتشه بانك. ويضيف: "نقدر الأثر على الأرباح ما قبل الضرائب بأنه لا يقل عن 400 - 500 مليون فرنك سويسري، عن كل امتياز من الامتيازات".
حتى بعد هذه الضربة، لا تزال الخدمات المصرفية الخاصة تبشر بالخير أكثر من غيرها من المناطق، بالنسبة لأعمال اللاعبَين السويسريَين الكبيرين.
في عام 2008، اضطر بنك يو بي إس إلى الدخول في عملية إنقاذ نتيجة لتعاملات مصارفه الاستثمارية في أصول القروض العقارية الأمريكية.
وبحلول عام 2012، أدرك الرئيس التنفيذي سيرجيو إرموتي أن القوانين التنظيمية لفترة ما بعد الأزمة، من شأنها أن تدمر كثيرا من ربحية مصرفه الاستثماري، وخفض موارده بشكل حاد.
على مدى السنوات الخمس الماضية، كان بنك الاستثمار كريدي سويس يخضع للتمحيص من قبل المستثمرين، ويجري حاليا تقليصه بشكل جذري في ظل خطة إعادة الهيكلة من الرئيس التنفيذي تيجاني ثيام، السنغالي الأصل.
عندما يتعلق الأمر بالخدمات المصرفية الخاصة، يتمتع كل من مصرفي كريدي سويس و يو بي إس بميزة الحجم والنطاق العالمي.
قال يورج زيلتنر، رئيس إدارة الثروات في بنك يو بي إس: "بصرف النظر عن المصارف الموجودة في الأسواق المتخصصة، فإن المصارف التي يمكنها توسيع نطاق عروضها ستزدهر في نهاية المطاف". ويضيف: "نحن في بيئة حيث الفائز يفوز بكل شيء. الخدمة السويسرية هي عنصر وطني – ولكنه شيء نصدره عالميا".
كما نجحت المصارف الصغيرة، وإن كانت لا تزال لا يستهان بها، مثل بنك يوليوس باير في زيوريخ، ثالث أكبر مصرف لإدارة الثروات في سويسرا، ومصرفي بيكتيت ولومبارد أودييه ومقرهما جنيف، في التوسع في الخارج. حتى بين هذه المجموعة، هناك منافسة شرسة، أبرزها التحرك في أواخر الشهر الماضي من قبل بنك بيكتيت لاقتناص بوريس كولاردي، الرئيس التنفيذي البارز لبنك يوليوس باير.
مع ذلك، وعلى الرغم من الضغوط التي تواجهها هذه الصناعة، فإن استراتيجية معظم المصارف السويسرية لا تزال تدور حول الاعتقاد الذي تبناه بعض المنافسين بأن المصارف في هذا البلد الغني تختلف نوعا ما عن غيرها.
يقول المصرفيون في المصارف السويسرية الخاصة إن جوانب الجذب متعددة. الجانب الأول هو الاستقرار السياسي والاقتصادي في سويسرا، والذي يتناقض مع الحكومات المتقلبة لبعض عملائها.
على مدى القرن الماضي، ظل الفرنك السويسري واحدا من أقوى العملات في العالم وأداء السندات الحكومية السويسرية من ضمن أفضل أشكال السندات السيادية، من حيث الأداء والعوائد.
تستفيد سويسرا أيضا من حيادها ومن وجهة نظر البعض، تستفيد كذلك من تمركزها خارج الاتحاد الأوروبي.
يقول جورج شوبيجر، رئيس قسم الخدمات المصرفية الخاصة في بنك فونتوبيل الذي يتخذ من زيوريخ مقرا له: "يرغب كثير من العملاء في أن تكون لهم حصة من ثرواتهم في ولايات قضائية مختلفة فأنت لا تعرف أبدا ما الذي سيحدث في العالم".
ويضيف: "أنت تريد بلدا آمنا، لديه اقتصاد قوي، ولا توجد فيه اضطرابات اجتماعية، ولا ينتمي إلى إحدى الكتل الكبيرة - أوروبا والصين والولايات المتحدة".
ويضيف مصرفي آخر: "هناك 80 مليون ألماني. ومنهم على الدوام نحو 30 ألف شخص على الأقل، يعتقدون أن منطقة اليورو مقضي عليها، لا محالة."
لدى سويسرا أيضا مجموعة من المتخصصين في الثروات الخاصة. يقول جانيبان: "يجب ألا نقلل من شأن النظام البيئي الذي لدينا هنا. هناك خيارات كبيرة وكثيرة تراوح بين مصرفيين، ومستشاري عملاء مدربين جيدا، ومتخصصين في الضرائب، ومحامين جيدين، وخبراء جيدين في نظم تكنولوجيا المعلومات". ويضيف شوبيجر: "عدد قليل من البلدان لديها مثل هذا التاريخ الطويل في التعامل مع عملات متعددة، وولايات قضائية متعددة، ولغات متعددة".
هل ستكون نقاط القوة السويسرية المذكورة كافية؟ كان الضغط على الهوامش في السنوات الأخيرة كبيرا - أكثر بكثير مما كان عليه في المراكز المالية الأخرى. اختفت الهوامش الدسمة التي كانت ممكنة ،عندما كان المال يوضع في الحسابات السويسرية للتهرب من الضرائب.
تعتز الجمعية المصرفية السويسرية بأن 226 من أصل 261 مصرفا في سويسرا حققت أرباحا في العام الماضي، ما يعني أن 35 من المصارف حققت خسائر. (شملت الأرقام جميع المؤسسات، وليس فقط المصارف الخاصة).
ويمكن أن يكون المستقبل حتى أسوأ من ذلك. يقول لاخاني إن أكبر تهديد هو أن معدلات الرسوم "لا يمكن أن تتحدى الوضع القائم".
ستؤدي التهدئة النهائية لأسواق الأسهم واستمرار أسعار الفائدة المنخفضة إلى زيادة الضغط على هوامش الربح بالنسبة للمصارف التي تقدم المشورة في مجال الاستثمار.
كما تستفيد المؤسسات الأمريكية الكبيرة من مصارفها الاستثمارية لتوسيع نطاق أعمالها في مجال إدارة الثروات، حيث إنها تعتز بمجموعة واسعة من الخدمات التي يمكن أن تقدمها للعملاء من كبار الأغنياء، الذين قد يرغبون في إدراج شركاتهم أو شراء جزء من شركة أخرى.
في أوروبا، رفض سويسرا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي له سلبيات بالنسبة لمصارفها فهي تعتمد إلى حد كبير على الشركات التابعة في الكتلة لخدمة العملاء في أسواق كبيرة مثل ألمانيا وفرنسا.
ويمكن أن تكون الأعمال عبر الحدود حتى أكثر صعوبة إذا كان خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي قد يشجع موقفا أكثر صرامة من بروكسل حول إتاحة إمكانية الوصول لبلد ثالث.
للبقاء على قيد الحياة، ركزت بعض المصارف الأصغر حجما على مجموعة محددة من العملاء. وتوقفت مصارف أخرى عن العمل طواعية. وتم الاستحواذ على بعضها. ومن بين أبرز عمليات الاستحواذ بنك بي إس آي في لوجانو، الذي استحوذ عليه المصرف المنافس "إي إف جي الدولي" في زيوريخ، العام الماضي بسعر ثبت في نهاية المطاف عند قيمة 971 مليون فرنك سويسري.
بيد أن بنك بي إس آي أوضح أيضا خطر التوسع السريع في الخارج. بعد فترة وجيزة من إعلان بنك إي إف جي عرضه للاستحواذ، أعلن الجهاز التنظيمي المالي السويسري Finma أن بنك بي إس آي "خالف بشكل خطير" قواعد غسل الأموال بعد أن أصبح متورطا في الفضيحة المحيطة بصندوق1MDB، صندوق الاستثمار التابع للدولة في ماليزيا. وقال الجهاز إنه ينبغي حل بي إس آي بشكل قانوني بمجرد دمجه في بنك إي إف جي.
يمكن أن تزيد الضغوط على المجموعات السويسرية مع استمرار التغير في طبيعة المصارف بسبب الأتمتة، ما يقلل من الحاجة إلى العلاقات الإنسانية.
بيد أن شوبيجر في فونتوبل يجادل بأن ذلك لن يقلل من الجذب الأساسي للعمل مع مصرفي سويسري. كما يقول: "من السهل إدارة محفظة السندات من خلال إحدى الخوارزميات، لكن من الصعب جدا إدارة الشؤون المالية لأصحاب المشاريع."
في الواقع، يجادل مصرفيون سويسريون آخرون بأن مهاراتهم في مجال الخدمات سوف تساعد في ضمان البقاء على المدى الطويل، في عصر يتحول إلى الطابع الرقمي.
بنك لومبارد أودييه، على سبيل المثال، طوّر قدرة تخصصية في التكنولوجيا -ربع موظفيه البالغ عددهم 2300 يعملون في مجال تكنولوجيا المعلومات، ولكن أودييه يرى ذلك على أنه مساعدة بدلا من استبدال لمستشاريه. ويقول: "أنت تدير تطلعات الناس".
جانيبان من بنك روتشيلد يؤيد هذا الرأي. ويقول: "العميل الأرمل الذي يبلغ من العمر 75 عاما، يختلف تماما عن صاحب المشاريع الذي يبلغ من العمر 35 عاما. أحيانا العملاء لا يعلمون ما هي عوامل الارتباط، أو القيمة عند المخاطر. مستشار العميل بحاجة إلى أن يكون قادرا على تفسير ذلك بلغة مفهومة لهم."
جانيبان، المدير السابق للفندق، يقول إن المصارف السويسرية "عليها أن تعود إلى ما كانت عليه قبل أن تصبح سويسرا ملاذا ضريبيا. نحن لسنا بحاجة إلى العودة إلى الأساسيات، فحسب أي العودة إلى التركيز على الأداء الاستثماري، بل أيضا التركيز على تقديم الخدمة الجيدة، والمشورة الجيدة، ومعرفة عملائنا، وتكريس الوقت للتفكير في تدبير مصالحهم، باعتبارها مصالحنا."
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES