Author

عرض بريطاني تحت جنح الظلام

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"أخشى انهيار الحكومة البريطانية، إذا بقيت مفاوضات الانفصال في حالة جمود" جان كلود يونكر، رئيس المفوضية الأوروبية تحركت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي بكل ما تمتلك من عزيمة، كي تقدم العرض البريطاني النهائي لاستكمال عملية انفصال بلادها عن الاتحاد الأوروبي. والعرض الذي قدم ليلا لكسب الوقت، يختص بالتكاليف المالية للانفصال التي ستدفعها بريطانيا، وتراوح بين 35 و39 مليار جنيه استرليني. ورغم أن هذه النقطة كانت تشكل إحدى المعضلات، إلا أنها تبقى الأخف وطأة على الجانب البريطاني، الذي يتعين عليه أن يتقدم في المرحلة المقبلة بمزيد من العروض التي تختص بقضايا محورية أخرى، منها وضعية إقليم إيرلندا الشمالية البريطاني في أعقاب الانفصال، وأوضاع الأوروبيين الذين يعيشون في المملكة المتحدة، وقضايا أخرى عديدة. كل هذا سيصاحب مفاوضات تجارية بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، للتوصل إلى اتفاق يقبله الطرفان يتم تنفيذه ما بعد الانفصال. وصف البعض العرض المشار إليه على أنه "اتفاق تاريخي"، خصوصا بعد تهديد الاتحاد الأوروبي للندن بالتقدم به في غضون أيام لا أسابيع ولا أشهر. غير أنه لا يستحق هذا التوصيف، لأسباب تتعلق بحل مشكلات محورية أخرى في المدة المحددة لنهاية المفاوضات الشاملة. وهذه المدة تنتهي في آذار (مارس) 2019. ولعل أصدق توصيف للحالة الراهنة، ما أعلنه رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك بأن "الأصعب لم يأت بعد". وواقعية هذا الأخير، اكتملت بتأكيداتها أن الانفصال صعب، لكن الأصعب هو الانفصال وبناء علاقة جيدة بين طرفيه. هنا تكمن المعضلة الكبرى. فالقضايا المتبقية، تجعل التعويض المالي الأقل من حيث الصعوبة. فالمشاكل قادمة في الأشهر المقبلة، بعدما نفع تهديد الأوروبيين لبريطانيا بضرورة التقدم بعروض منطقية. لن يقدم الاتحاد الأوروبي للمملكة المتحدة أكثر من اتفاق تجاري مشابه للذي يربطه بكندا. والسبب يعود لإصرار بريطانيا على الخروج من حرية الحركة المطبقة بين دول الاتحاد، وبفعل هذا الإصرار لا يوجد اتفاق ملائم للأوروبيين سوى ذاك الذي يجمعهم مع دولة مثل كندا. غير أن الجانب البريطاني لا يرغب في علاقة كهذه، ويريد أن يكون اتفاق التجارة المزمع أعلى من حيث الامتيازات والعلاقات الخاصة. ولذلك سنرى مفاوضات شاقة جديدة حول هذه النقطة بالذات، وربما لن يحسمها سوى تهديد أوروبي آخر للندن، أو حتى عدم توقيع أي اتفاق تجاري معها، وإن كان هذا الاحتمال ضعيفا جدا. فالمبدأ الأوروبي يقوم على تحرير حركة التنقل للفوز بامتيازات تجارية خاصة وعالية المستوى. وعلينا أن نتذكر أن المروجين للانفصال قبل الاستفتاء الشهير، استعانوا بحرية التنقل في تحويل آراء الناخبين البريطانيين، بمن فيهم بعض من أيد عضوية بريطانيا في الاتحاد. ومن المشاكل التي ستبقى أيضا على الساحة خلال المفاوضات، تلك المتعلقة بوضعية حكومة ماي على الساحة الداخلية. فهذه الحكومة التي تحكم من خلال ائتلاف هش، منقسمة على نفسها حيال مفاوضات الانفصال، خصوصا أنها تضم قادة ما يعرف بالـ"بريكست". وعلى هذا الأساس يصح التوقع بأن الحكومة المشار إليها قد تنهار بالفعل في الأشهر المقبلة، ما سيسبب مزيدا من الفوضى في صنع القرار البريطاني، دون أن ننسى، أن حزب المحافظين الحاكم نفسه بات منقسما على نفسه منذ اليوم الأول لتشكيل الحكومة الحالي، وهو انقسام بين من يريد الانفصال بأي ثمن حتى بدون اتفاق، وبين من يرى أنه من مصلحة المملكة المتحدة الخروج السلس، ووجود اتفاق مستقبلي خاص مع الاتحاد، ناهيك عن أولئك الذين يتحدثون عن ضرورة عرض الاتفاق النهائي لاستفتاء عام. وإذا ما أخذنا الوضع الإيرلندي ضمن المفاوضات الراهنة، فإننا أمام مفاوضات شاقة بالفعل، بل لنقل متفجرة. فالانفصال في حد ذاته يضرب أحد أهم بنود اتفاق "الجمعة الحزينة" الشهير في تسعينيات القرن الماضي، الذي أنهى الأزمة الإيرلندية. وهذا البند يتعلق بفتح الحدود بين إقليم إيرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا العضو الكامل في الاتحاد الأوروبي. فالأوروبيون سيدافعون عن مصالح هذا العضو، وإيرلنديو الشمال يهددون الحكومة البريطانية بإسقاطها وهم قادرون على ذلك، لأن أحد أحزابهم المؤتلف مع حكومة ماي ليس سعيدا، حتى الآن، بالمفاوضات الخاصة بالوضع الإيرلندي. صحيح أن حكومة تيريزا ماي خضعت لرغبة الحزب الأيرلندي المشار إليه، إلا أن التفاصيل تحمل معها كثيرا من المخاطر، بشأن وضعية أيرلندا. ستدخل رئيسة الوزراء البريطانية التاريخ من عدة زوايا، وفي مقدمتها تلك الخاصة بانفصال بلادها عن اتحاد لم يفكر أحد أنه يمكن أن يحدث، وبأنها تدير البلاد بحكومة هشة، وتزعمها حزبا يتحين الفرصة للقضاء عليها سياسيا، وتعيينها لانفصاليين أشداء في أهم المواقع في حكومتها، وغير ذلك من الأحداث التي لم تكن متوقعة حتى قبل عام ونصف العام. الجانب المالي تم حله بالفعل، لكن الجوانب الأخرى ستأتي بـ "متفجرات" سياسية على الساحة البريطانية، التي بات فيها "بريكست" الخبر الأول والمحرك الرئيس للأحداث.
إنشرها