Author

الدورات المهنية .. بين الأزمة والانتعاش

|

لا تشبه حالة الطلب على المهندسين المدنيين اليوم ما كانت عليه أواخر السبعينيات الميلادية، وربما اختلف الوهج الذي كان يناله معلمو الحاسب منتصف التسعينيات عن حالتهم هذه الأيام، بينما ينتعش الطلب اليوم على مديري المشاريع وإدارة المرافق والخدمات اللوجستية وصانعي المحتوى بشكل لم يُعهَد له مثيل. نلاحظ أن الطلب على مديري المشاريع المحترفين لم يزدد لزيادة عدد المشاريع فقط، وإنما لاختلاف طريقة التعامل معها رقابيا وإشرافيا. أعتقد أن العرض والطلب على الكفاءات المتخصصة يمران بدورات طبيعية تتأثر بعدة عوامل، وتمر بفترات زخم وانتعاش، وأخرى تتباطأ فيها الأمور، وقد تصل إلى حد الانتكاسة والضمور. فهْم حركة هذه الدورات - خصوصا على المدى المتوسط - مهم جدا لقرار اختيار التخصص، ومهم كذلك لقرار تغيير أو تطوير التخصص ولو بعد سنوات من العمل والخبرة. دائما هناك إيقاع خفي في كثير مما يجري حولنا، وهذه سُنة الحياة، فيها فترات الازدهار وفترات الهدوء والتجديد. في الفرص الاقتصادية - على سبيل المثال - نمتلك كأشخاص حق الاختيار والقرار، إذ نستطيع أن نغير مكان أو زمان الاستثمار للحصول على فرصة أفضل، وهذا تماما ما يحدث في عالم الأعمال والمهن. ولكن كيف تتأثر الدورات المهنية؟ وبماذا ترتبط؟ يختلف هذا التأثر من مجال إلى آخر، ولكن يمكن تقسيمه إلى عدة حالات، كالتالي: في البداية، تتأثر بعض التخصصات بالدورة الاقتصادية بشكل كبير، حتى إنها قد تتبع الدورة الاقتصادية حتى تصبح نسخة مكررة منها، مثل حالة العمالة غير الماهرة وأصحاب المهارات في مشاريع البنى التحتية. في بعض الأحيان، تعكس الدورة المهنية التأثر بعد فترة ستة أشهر أو سنة، إذ تبطئ الترتيبات التعاقدية من حدوث النتائج، ومثلها تداخل مراحل الدورات الاقتصادية على مستوى المناطق. وفي أحيان أخرى، تعكس الدورة المهنية الواقعَ قبل حدوثه؛ إذ ينعكس تحفظ وتخوف ملاك المشاريع على قرارات التوظيف، وربما تسري موجة من الذعر المبكر في مجال ما قبل حدوث السبب الاقتصادي على أرض الواقع. وبعيدا عن الدورة الاقتصادية، تؤثر كذلك الإمكانات المعرفية والتقنية بشكل قوي في إعادة تشكيل الدورات المهنية، فتحول الازدهار المهني إلى ركود، والركود المهني إلى ازدهار. وهذا تماما ما تفعله اليوم التقنيات الذكية التي تصنع لنا أنواعا جديدة من المجالات والاحتياجات المهنية، وتدخلها في مسار جديد للنمو، وربما ترمي ببعض المجالات في منحدر السقوط بلا رجعة. لهذا ظهرت لنا أخيرا الطلبات المتخصصة في إدارة وسائل التواصل الاجتماعية، وإحصاءات البيانات الحيوية، إضافة إلى علماء البيانات، ويكاد يختفي الطلب على مدخلي البيانات ووكلاء السفر، وانتهى تماما عامل مقسم الهاتف. إذا افترضنا أن الدورة الاقتصادية تقوم بعملها، والتقنية تخدم بعض التخصصات وربما تصنع أخرى جديدة، نجد أن سياسات التوظيف تنجح في تحفيز مجال واعد، وربما تقتل آخر بالنيران الصديقة. لا يمكن بأي حال أن نفترض أن سياسات محاربة البطالة في أي دولة ستقوم دائما بالعمل وستنجح في محاربتها. هناك حالات من النجاح والفشل ما يؤثر ربما في بعض الوظائف بشكل سلبي، ويؤخر رواجها ونموها. المحاسبة والتسويق والقانون - على سبيل المثال - من المجالات التي كان يمكن أن تزدهر من السبعينيات والثمانينيات الميلادية، ولكن بسبب سياسات المواءمة التي لم تعمل بشكل ملائم في تلك الفترة أو لم تكن موجودة، لم يتنبه السعوديون لهذه التخصصات بشكل جيد إلا في نهاية التسعينيات، على الرغم من أنها ليست تخصصات جديدة. فتخيل معي حجم خسارة القطاع الخاص وضياع الفرص على الطاقات البشرية بسبب أن الدورة المهنية لهذه المجالات تعطلت لسبب ما. ولبقية الأنظمة والتشريعات تأثيرات مباشرة في الدورات المهنية. هذه الأيام نرى طلبات غير معهودة من قبل في المنطقة على وظائف إخصائي الضرائب، كنتيجة مباشرة لتطبيق ضريبة القيمة المضافة؛ وهذا يعني ولادة دورة جديدة، أو وجهة جديدة من الدورات المهنية المحاسبية والقانونية التي ستمر كذلك بمسارها الطبيعي. ومثلها كذلك تشريعات قيادة المرأة وأمن المعلومات والنقل العام وغيرها. هناك طبعا بعض الأعمال التي تمتلك مقاومة للظروف التي تؤثر في دورتها المهنية، وذلك بسبب طبيعتها، مثل مراجع الحسابات ومأذون الزواج، بينما تتأثر أخرى بشكل سريع جدا ومباغت مثل مدربي الشركات. فهم هذه المتغيرات وربطها بخططنا الشخصية لتطوير المهارات والإمكانات مهم جدا للحصول على فرص جيدة. العزلة وضعف إدراك الواقع المهني وطبيعة دوراته وديناميكيته تعني حالة مكلفة من النشاز في أعمالنا، والتكلفة هنا ليست مادية، وإنما حياتنا المهنية بكاملها، وكل ما يتبعها من جهود وعوائد.

إنشرها