FINANCIAL TIMES

بروكسل: على بريطانيا أن تبتلع كثيرا .. وأن تبتلعه الآن

بروكسل: على بريطانيا أن تبتلع كثيرا .. وأن تبتلعه الآن

التقرير المؤلف من 280 صفحة مختوم بكلمة “سري” لسبب وجيه. كبير المفاوضين في بريطانيا صريح بشكل صارخ: منذ البداية كان موقف أوروبا بمنزلة عملية فرْض على المملكة المتحدة أن “تبتلع كثيرا، وأن تبتلعه الآن”. وهذا “بشكل عام، ما اضطررنا إلى أن نفعله”.
تأملاته الشخصية، المكتوبة لكي يطلع عليها الوزراء فقط، هي من أكثر الأنواع حساسية. أوضح كبير المفاوضين أن استراتيجية بريطانيا الافتتاحية فشلت. وأن المملكة المتحدة شرعت في مسعى لتغيير المشروع الأوروبي، لكن في غضون ستة أشهر تخلت عن ذلك، إدراكا منها أن عبء التغيير يقع على بريطانيا نفسها.
مسائل الانتقال أصبحت الموضوع الرئيس، إلى جانب المطالب المالية الباهظة من قبل أوروبا. كان الموقف التفاوضي للمملكة المتحدة ضعيفا، مع محاولة فرنسا “اعتصار كل ميزة من رغبة بريطانيا في تحقيق تقدم مبكر”. وفيما يتعلق بالمسألة المالية، في الوقت نفسه، كانت ألمانيا “أقل سخاء (...) مما كنا نأمل”.
التقرير يبدو كأنه القصة الداخلية لمحادثات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي – وهو معَدٌّ بالشكل المناسب لكي تندفع تيريزا ماي، رئيسة الوزراء البريطانية، إلى بروكسل من أجل اجتماع حيوي مع جان كلود يونكر، رئيس المفوضية الأوروبية ثم إلى قمة حاسمة في 14-15 كانون الأول (ديسمبر).
لكن التقرير في الواقع كُتِب قبل 45 عاما، أي قبل ستة أشهر من انضمام بريطانيا إلى الجماعة الأوروبية. تقرير السير كون أونيل، الذي تم الاحتفاظ به في الأرشيف الوطني، يتحدث عن محادثات الانضمام التي كان يتولاها خلال الفترة 1970-1972. إنه تقرير نادر يبين النفسية التي يشعر بها البريطانيون حين يتقدمون بمطالب في بروكسل في الوقت الذي يكون فيه المصير الوطني على المحك. كما يقدم رؤى حول المحادثات الحالية -خصوصا فيما يتعلق بأي الجانبين يتمتع بأكبر قدر من النفوذ.
كانت المملكة المتحدة في الموجة الأولى من الداخلين الجدد على الأعضاء الأصليين للجماعة الأوروبية في كانون الثاني (يناير) 1973 - ومن المقرر أن تكون أول المغادرين في 29 آذار (مارس) 2019. جولتا المفاوضات يفصل بينهما جيل كامل، واختلافات هائلة، وتتحركان في اتجاهين متعاكسين. إلا أن ما يسميه المفاوضون “انضمام بريطانيا في الاتجاه المعاكس” يستخلص ردود أفعال غريزية وعادات مماثلة من الاتحاد الأوروبي.
لكن ما يثير الاستياء الكبير في لندن هو أن نهج أوروبا في ذلك الحين وفي الوقت الحالي يتسم بما يصفه أحد كبار الدبلوماسيين الأوروبيين بنوعية “آلية”. بدلا من التعامل السلس بين أنداد، يجري التعامل مع المحادثات وكأنها عملية يتكيف معها البلد الأضعف في نهاية المطاف. المتغير الرئيس هو وتيرة التغيير، أو ما يسمى الانتقال.

تعديل أم مفاوضات؟
حاول باسكال لامي، الرئيس السابق لمنظمة التجارة العالمية والمفوض الأوروبي لفترتين، تحديد عدم التناظر عندما وصف آلية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بأنها ليست “مفاوضات” ولكن “تعديل”. عند سماع ذلك، صرخ أحد كبار أعضاء الاتحاد الأوروبي المشاركين في محادثات البريكست: “لا فُض فوك!”.
التعديل الكبير الذي أجرته ماي سوف يأتي هذا الشهر إذا توصلت، كما هو متوقع، إلى اتفاق انفصال من أجل اختتام المرحلة الأولى “الميكانيكية” من المحادثات. من تسوية مالية قدرها 40 - 60 مليار يورو، إلى تبني حقوق مواطني الاتحاد الأوروبي عمليا في بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، رئيسة وزراء بريطانيا تنحني أمام شروط الاتحاد الأوروبي. التسويات لا تسير على طريق واحدة، لكن المسؤولين البريطانيين يسارعون إلى إظهار المكان الذي فازوا فيه بأكثر التفاصيل. قال أحدهم: “لا يمكن أن يُنظر إلينا على أننا تخلينا عن كل شيء”.
وقد يكون أحد الاختلافات الكبيرة مع عام 1971 هو النتيجة. كان هدف السير كون واضحا: عضوية الجماعة الأوروبية. وكان لديه دعم كامل من مجلس الوزراء. الآن مع مرور الزمن نعلم أن السير كون كان يرى أن مهمته “نفذت بشكل محظوظ”. حتى فائض الألبان في أوروبا - جبل الزبدة - ذاب في اللحظة المناسبة تماما في المفاوضات الزراعية.
في المقابل، لا تزال محادثات خروج بريطانيا قيد البحث، ووجهتها غير واضحة. بمجرد بدء المباحثات التجارية مطلع العام المقبل - أول نجاح كبير لبريطانيا - سيكون لدى المحادثات موعد نهائي مفتوح وهدف غير محدد. ستحمل ماي معها ليس فقط حكومة منقسمة، بل برلمانا وبلدا منقسمين. ومساعي الاتحاد الأوروبي ربما تكون مشلولة بسبب السياسة الداخلية.
رغم جميع أوجه التشابه مع عام 1971، يتساءل بعضهم عما إذا كانت المحادثات ستشبه مفاوضات الانضمام الفاشلة التي جرت في الفترة 1961-1963، والتي أفسدها الرئيس الفرنسي شارل ديجول.
في الأسبوع الماضي قال اللورد هاناي، السفير البريطاني السابق لدى الاتحاد الأوروبي الذي عمل مع السير كون في محاولة انضمام بريطانيا: “في ذلك الحين كان شبح الفشل معلقا على المحادثات كما هي الحال اليوم. في الفترة 1961-1963، إلى حد كبير مثلما هي الحال اليوم، لم نكن في الواقع قد اتخذنا قرارا حول ما كنا نريد فعله”.
السير كون كان دبلوماسيا كثير التدخين يتميز كما وصفه اللورد هاناي بـ “صوت كأنه ينبعث من أعماق القبور”. اشتملت حياته المهنية على ثلاث استقالات على مسائل مبدئية، واستجواب النازي، رودولف هيس. والتقرير حول المفاوضات هو وداعه لوزارة الخارجية؛ الملفات التي راجعها تشغل مسافة بطول 46 مترا تقريبا على الرفوف.
الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي – إلى حد كبير مثل مغادرته – أثبت أنه معقد إلى درجة تجعلك تفقد الإحساس بالشعور، وقضية لا ترحم. وكتب: “لا شك أنهم لم ينحدروا تماما إلى مغسلة المطبخ، لكنهم اقتربوا منها”.
كان أحد أسباب ذلك هو ما يسمى مجموعة القوانين - وهي تراكم القانون العام للكتلة، ابتداء من التوجيهات والقرارات إلى الأنظمة وقوانين الإنفاذ. عندما حاولت بريطانيا الانضمام في عام 1961، اعتقدت أن لديها فرصة لإعادة تشكيل قواعد النادي الناشئ. وبحلول عام 1971 كان هناك ما يقارب 15 ألف قانون. اليوم توسعت المجموعة بشكل كبير جدا، مع الانسجام التام مع قوانين البلدان، إلى درجة أن المفوضية الأوروبية لا تحتفظ حتى بسجلات عن حجمها الكامل.
غير أن هذه المجموعة تشكل الأساس غير القابل للتفاوض بالنسبة لأي بلد ينضم أو يخرج من الاتحاد الأوروبي. وكخطوة أولى في محادثات العضوية، يجب على البلدان المرشحة أن تقبل ليس فقط مبدأ الالتزام بمجموعة القوانين الحالية، ولكن ما يمكن أن تصبح عليه.
في وقت سابق من هذا الشهر قال السير مايكل لاي، الرئيس السابق لدائرة توسيع الاتحاد الأوروبي: “إنه أمر غير متناظر. البلد المرشح ليس لديه خيار سوى قبول أساس المفاوضات. هذا ينطبق على المغادرة أيضا”.

شيك الخروج
مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فإن مبدأ “ابتلاع كل شيء” قد تم تطبيقه من خلال شرط مسبق. قبل مناقشة المستقبل، أراد الاتحاد الأوروبي تفكيك خيوط الماضي. ابتداء من المطلوبات المالية التي يتحملها الاتحاد الأوروبي إلى حقوق الأفراد في الاتحاد، فإن الأمر يتطلب من بريطانيا أن تحترم المطالبات القائمة من مجموعة القوانين. وفي الوقت نفسه، يجب الاتفاق على نقطة نهاية واضحة لحقوق الاتحاد الأوروبي في بريطانيا.
في محادثات خاصة مع الزملاء، يصف فريق ميشيل بارنييه هذا التفاوض حول الانفصال على أنه يتلخص في “شيك وتاريخ انتهاء”. أحد الأسئلة الكبيرة التالية التي يتعين حلها من قبل كبير المفاوضين حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وغيره هو المدة التي ستستغرقها عملية التكيف - الانتقال.
في عام 1971 أثبتت المفاوضات التي أجراها السير كون أنها تتعلق بأحكام الانتقال “نسبيا مع أشياء أخرى لا تذكر”. كانت المفوضية الأوروبية متعنتة إلى حد كبير بشأن مجموعة القوانين، لكنها أعطت بريطانيا شروطا مواتية للتكيف. وعلى الرغم من أن المملكة المتحدة قصَّرت في التزامات العضوية لبضع سنوات، مثل مدفوعات الميزانية الكاملة، إلا أنها تظل تتمتع بحقوق كاملة اعتبارا من يوم الانضمام.
ويبدو أن العكس مرجح لفترة انتقال الخروج في بريطانيا، الذي تتوقع ماي أن تمتد إلى نحو عامين. شرط بارنييه هو أن تقبل بريطانيا كامل مجموعة القوانين - ومؤسسات الاتحاد الأوروبي والمحاكم التي تنفذها - دون حقوق التصويت التي تأتي مع العضوية.
حكومة ماي مستعدة إلى حد كبير لقبول مثل هذه الشروط من أجل التوصل إلى اتفاق بحلول آذار (مارس) وتوفير بعض الطمأنينة للشركات. لكن من شأن هذا أن يعني أنه حتى عام 2021 على الأقل - بعد خمس سنوات تقريبا من التصويت على الاستفتاء - ستظل بريطانيا تقدم مساهمات كاملة في الميزانية، وتقبل حرية الحركة وأحكام المحاكم الأوروبية.
هذه المعضلة تبرز جبهة القتال المحتملة في مفاوضات الانضمام والخروج. في الأسبوع الماضي أشار يان تروتشينسكي، المفاوض الرئيسي بشأن انضمام بولندا في 2001-2003، إلى أن “نحو 90 في المائة من الجهد والوقت والطاقة العصبية لا تقضى في المفاوضات في بروكسل، ولكن في الداخل. إنه دائما الجزء الأصعب. الداخل، ثم الداخل، ثم الداخل مرة أخرى”.
ماي ستتفهم هذا الشعور. استغرق الأمر منها نحو ستة أشهر للفوز بدعم مؤيدي مغادرة بريطانيا من أجل انتقال “ثابت”. الآن لا بد لها من محاولة حل واحدة من أكبر المعارك الأيديولوجية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية في بريطانيا: كيف يجب على بريطانيا أن تبقى منسجمة بشكل وثيق مع أوروبا؟
إذا ما تم الاتفاق على صفقة الانفصال في كانون الأول (ديسمبر)، يجب إنشاء أساس جديد للتجارة بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة. حتى مفاوضي الاتحاد الأوروبي يتوقعون “دينامية إيجابية جديدة” في المفاوضات التجارية. ديفيد ديفيز، الوزير المسؤول عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، يتوقع أن تظهر “المصالح المتبادلة” في المقدمة.
ووفقا لمسؤول بارز في إحدى حكومات الاتحاد الأوروبي الـ 27 التي تعالج موضوع مغادرة بريطانيا من الاتحاد الأوروبي: “في الانضمام أنت تأخذ ما يقدم لك (...) أنت تذعن لذلك. ويتم تقييمك. وهذا كل شيء. لكن الطريق للخروج هو الطريق إلى المجهول. نحن لا نعرف ما يريده البريطانيون. وهم أنفسهم لا يعرفون ذلك” وقال مسؤول بريطاني رفيع المستوى إن مخاوف لندن هي أن الاتحاد الأوروبي يبدو محتارا بالقدر نفسه: “نحن بحاجة ماسة إليها للتفكير في هذا الأمر استراتيجيا، وليس إيديولوجيا”.
ماي واضحة بما فيه الكفاية بشأن العوامل الوسيطة: بريطانيا سوف تترك السوق الموحدة والاتحاد الجمركي، وتنهي حرية الحركة، وتستعيد سيادة المحاكم الوطنية. وستبنى العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة حول صفقة للتجارة الحرة، ما يوفر وصولا اقتصاديا أفضل من بلد مثل كندا، مع تجنب القيود التي تواجهها النرويج في السوق الواحدة.
لكن ما يهم هو النقطة التي يتم عندها التوازن. يقول بارنييه وآخرون إن مثل هذا المزيج من إمكانية الوصول على غرار النرويج والحريات على غرار كندا “مستحيل”. إضفاء مزيد من الوضوح على ما ينطوي عليه ذلك قد يؤدي إلى تفاقم الانقسام في صفوف الحكومة البريطانية. الوقت يعد عاملا إضافيا. كان فريق عام 1971 سعيدا بإبقاء نقاط فضفاضة لأن النفوذ البريطاني زاد بعد أن أصبحت بريطانيا عضوا في الجماعة الأوروبية، مع حقوق تصويت كاملة.

مخاوف بريطانيا
اليوم، يخشى المفاوضون البريطانيون من أن نفوذهم سيزول بحلول اليوم الذي تغادر فيه بريطانيا الاتحاد الأوروبي. قال ديفيز: “إذا كانت بريطانيا تنجرف إلى مرحلة انتقالية دون اتفاق تجاري”، فإن “محاولة وضع اللمسات الأخيرة على اتفاقية التجارة الحرة في ظل هذه الظروف ستكون غير مؤاتية إلى حد كبير من وجهة نظر النفوذ التفاوضي”.
هذا ربما يجعل العلاقات الشخصية بين ماي وزعماء آخرين عاملا كبيرا. ولم يحدد أي حدث واحد مفاوضات عام 1971 أكثر من الاجتماع الذي دام طيلة اليوم بين رئيس الوزراء البريطاني، إدوارد هيث، والرئيس الفرنسي، جورج بومبيدو، الذي أعطى رخصة سياسية للمفاوضين لإنجاز الاتفاق.
بالنسبة للوقت الحاضر، أنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية، وإيمانويل ماكرون، الرئيس الفرنسي، يتخذان نهجا قويا. وفي حين أن أعضاء المجموعة الأوروبية الستة في عام 1971 كانوا إلى حد ما منقسمين – كان الجميع (باستثناء فرنسا) يؤيدون قضية بريطانيا – الأعضاء الـ 27 اليوم يظهرون عزيمة متحجرة ووحدة مذهلة.
تأمل لندن في تغيير حسابات قادة الاتحاد الأوروبي في المحادثات التجارية. لكن دبلوماسيي بريطانيا المخضرمين غير مقتنعين. قال السير إيفان روجرز، السفير البريطاني السابق لدى الاتحاد الأوروبي: “ليس من الممكن أبدا أن يكون قادة الاتحاد الأوروبي أقل تطرفا، وأقل تعصبا، وأكثر براجماتية، وأكثر انقيادا من الناحية التجارية من أبراج العاج في بروكسل”.
وأضاف في كلمة في الفترة الأخيرة: “حاملو الشعلة الحقيقية والمدافعون عن سلامة المشروع، هم في أحيان كثيرة الزعماء”.
بعض المؤرخين يعتقدون أن وجه الشبه الأفضل ربما يكون المفاوضات الفاشلة خلال الفترة 1961 – 1963. يلاحظ بيرز لادلو، من كلية لندن للاقتصاد، أن حكومة هارولد ماكميلان المحافظة اكتشفت أن النطاق الذي تستطيع المناورة فيه “تعرض للتلف تماما” نتيجة الانقسامات في الوزارة، وتراجع الشعبية، والمعارضة من حزب العمال التي استغلت الموضوع الأوروبي. كتب يقول: “كذلك نطاق تيريزا ماي من أجل المرونة يبدو أنه حتى محاصر أكثر من المرة الأولى”. يمكن أن تجد ماي أن “نجم الحظ” من السير كون لا يزال يشرق على بريطانيا المغادرة من الاتحاد الأوروبي. لكن لو استطاع السير كون أن يسمِعنا النصيحة من القبر، فربما تكون نصيحة كئيبة نوعا ما.
كتب في الجملة الأخيرة في التقرير: “إذا لم نستطع تحقيق النجاح من موقعنا الجديد بصفتنا عضوا في الجماعة الموسعة، عندها ربما سنفشل بشكل كارثي أكبر حتى من قبل لو حُكِم علينا أن نبقى خارجها”.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES