السياسية

«الجيوبوليتيكا» .. علم البحث الدؤوب عن القوة

«الجيوبوليتيكا» .. علم البحث الدؤوب عن القوة

تعد «الجيوبوليتيكا» تخصصا معرفيا دقيقا، فرض نفسه تدريجيا على الساحة الأكاديمية، مع تنامي الأدوار التي اضطلع بها هذا المجال عبر عقود وربما قرون من الزمن. لكن عراقة هذا الحقل البحثي لم تساعد كثيرا على فك الاشتباك القائم بينه وبين عدة تخصصات مشابهة، ويصل الالتباس عند بعض الباحثين أحيانا درجة تحل فيها الجغرافيا السياسية محل الجيوبوليتيكا، وكأنهما اسمان لمسمى واحد فيما واقع الأمر غير ذلك تماما.
يرتبط جوهر «الجيوبوليتيكا» بتحليل العلاقات السياسية الدولية في ضوء الأوضاع والتركيب الجغرافي، ولهذا فإن الآراء الجيوبوليتيكية يجب أن تختلف مع اختلاف الأوضاع الجغرافية التي تتغير بتغير تكنولوجية الإنسان، وما ينطوي عليه ذلك من مفاهيم وقوى جديدة لذات الأرض.
صحيح أن الدراسات الجغرافية حاضرة بقوة، إن لم تكن الركيزة الأساسية في «الجيوبوليتيكا»، حتى إن هالفورد ماكيندر أحد أعلام هذا الحقل المعرفي قال "لكل قرن جيوبوليتيكيته، وإلى اليوم فإن نظرتنا إلى الحقائق الجغرافية ما زالت ملونة بمفاهيمنا المسبقة المستمدة من الماضي "لتلك الحقائق".
وكان لعديد من رواد الجغرافيا الحديثة، خصوصا السياسية، أفضال كبيرة على هذا الحقل المعرفي، أمثال ألكسندر فون همبولت وكارل ريتر ممن أسسوا للعلاقة الثلاثية المتبادلة بين الإنسان والدولة والمحيط الطبيعي. وكان الفرنسي أرنولد جويه أول جغرافي حديث يستند إلى نظرة ريتر إلى القارات على أنها كل متكامل طبيعي، ليؤكد أن زعامة العالم آخذة في الانتقال من أوروبا إلى أمريكا الشمالية.
تتميز «الجيوبوليتيكا» في صيغتها الحديثة باستقلالها كعلم سياسي يستمد جذوره من الجغرافيا وحقائقها، ويعمل على الإفادة منها لخدمة خطط سياسية معينة في غالبية الأحوال. مع تسجيل فوارق بينهما: إذ «الجيوبوليتيكا» ترسم خطة لما يجب أن تكون عليه الدولة، بينما تدرس الجغرافيا السياسية كيان الدولة الجغرافي. وتميل هذه الأخيرة إلى الثبات بالاكتفاء برسم صورة عن الماضي والحاضر، فيما تنتصر «الجيوبوليتيكا» للتطور والحركة وتعمل على بناء تصور لحالة الدولة في المستقبل.
إن أفكار «الجيوبوليتيكا» قديمة قدم الفكر الإنساني في حضاراته العليا القديمة، ولعل أقدم فكرة صريحة وصلت إلينا تلك التي نجدها في كتاب "السياسية" للفيلسوف الإغريقي أرسطو الذي أكد أن موقع اليونان الجغرافي في الإقليم المعتدل "المناخي" قد أهل الإغريق إلى السيادة العالمية على شعوب الشمال "البارد" والجنوب "الحار".
وقد بنى أرسطو سياسته على تقسيمات بارمينيدس للعالم إلى خمسة أقاليم مناخية: إقليم شديد الحرارة وإقليمان شديدا البرودة وإقليمان معتدلان؛ العائدة إلى القرن الخامس قبل الميلاد. وقال "إن الإقليم المعتدل الذي يسكنه الإغريق هو الإقليم الذي يحمل في طياته بذور القوة".
عمليا تبقى خريطة هيكاتيوس التي تعود إلى القرن السادس قبل الميلاد أقدم ما وصل إلينا، التي قسمت العالم إلى إقليمين مناخيين: البارد؛ ويضم أوروبا وشمال آسيا، ويشمل الدافئ كلا من آسيا وإفريقيا. وفي رأيه أن الإقليم الدافئ أكثر ملاءمة للسكن وتكوين القوى الدولية.
يقوم التحليل الجيوبوليتيكي على موضوعين أساسيين: أحدهما؛ وصف الوضع الجغرافي وحقائقه كما يبدو ارتباطا بالقوى السياسية المختلفة. والآخر؛ وضع ورسم الإطار المكاني الذي يحتوي على مختلف القوى السياسية - تحديدا الدول - المتفاعلة والمتصارعة.
حديثا ظهرت مدارس واتجاهات فكرية لكل واحدة منها تنظيراتها ورؤاها الخاصة لتوزيع القوة في العالم، فنجد هالفورد ماكيندر يتحدث عن نظرية "قلب العالم" التي اشتغل عليها طيلة النصف الأول من القرن الماضي، مع تسجيل ملاحظة جوهرية مفادها التباين الواضح لأسس أطروحته ما بين البداية والنهائية.
فيما أسس الألماني كارل هاوسهوفر صاحب مدرسة ميونخ للجيوبوليتيكا رؤيته على مفهوم الأقاليم الكبرى ويتكون من: أمريكا الكبرى، أورو إفريقيا وروسيا الكبرى وآسيا الشرقية الكبرى... ويبقى رودلف كيلين المؤرخ والعالم السياسي السويدي بمنزلة الأب المؤسس للمفهوم، فهو أول من استخدم مصطلح الجيوبوليتيكا، في كتابه "الدولة كمظهر من مظاهر الحياة".
رغم تعدد النظريات وتفصيلاتها فإن ما يجب أن أضحى يقينيا هو أن كل الاستراتيجيات في الماضي والحاضر، ترتبط بظروف الزمان والتقنيات التي يصلها الإنسان، كما ترتبط بالأوضاع الجغرافية. لكن في الوقت الراهن من الصعب القيام بمثل هذا التحليل بالقياس إلى سهولة ذلك في الماضي، وذلك راجع إلى تداخل الأطوار المكانية للقوى والتكتلات الدولية الحالية، وما يتبع ذلك من استمرار لعلمية إدخال أو إخراج واحدة من القوى داخل حلف آو آخر، وبذلك لا يمكن وضع حدود مكانية واضحة وفاصلة؛ إذ لا بد أن تعتريها التداخلات الزمانية من آن إلى آخر.
تعمل «الجيوبوليتيكا» على رسم تصورات سياسية مستقبلية في ضوء تفاعلات المكان الجغرافي والشكل السائد من الاستراتيجية العسكرية، ولهذا يتردد دائما مصطلح القوة البرية او البحرية أو الجوية. وبما أن «الجيوبوليتيكا» في أساسها خطة للمستقبل السياسي لإقليم أو قارة أو العالم، فإنها أقل موضوعية من الجغرافيا السياسية، لكنها ضرورة متلازمة مع الفكر السياسي في عصر القوميات والاستراتيجيات العسكرية للسيطرة على العالم أو جزء منه.
يلخص أحدهم تطورات علم «الجيوبوليتيكا» عبر قرون بقوله "تاريخيا كانت الأوضاع الجغرافية في هذا القرن هي تلك القائمة على الترابط بين توزيع أشكال سطح الأرض وأنماط الحركة، بينما كانت النظرة في القرن الماضي مبنية على توزيع الكتل القارية فقط. وفيما قبل القرن التاسع عشر كانت النظرة إلى الأوضاع والحقائق الجغرافية نابعة من التوزيعات المناخية وأشكال السطح الإقليمية". قبل أن يضيف فيما يخص توقعاته للقرن المقبل قوله "تشير المناقشات الجارية بين المختصين إلى أن أسس النظرة إلى الأوضاع والحقائق الجغرافية في القرن القادم سترتكز على توزيع الكتل السكانية والتكاملات الاقتصادية أكثر بكثير، مما يعطى لها وزنا في الوقت الحاضر".

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من السياسية