FINANCIAL TIMES

اجتياح الصين لاقتصادات أوروبا الشرقية يثير قلق بروكسل

اجتياح الصين لاقتصادات أوروبا الشرقية يثير قلق بروكسل

في المجر، يشاد بالعلاقات التجارية المتصاعدة مع الصين على أنها "الانفتاح باتجاه الشرق". وتراها السلطات الصربية على أنها الغراء الذي يضفي التماسك على "صداقة موثوقة"، في الوقت الذي تصفها الحكومة البولندية بأنها "فرصة هائلة".
مع ذلك، تتلقى مجموعة 16+1، من 16 بلدا من أوروبا الشرقية والوسطى بقيادة الصين، مراجعات لاذعة في العواصم الرئيسة في الاتحاد الأوروبي، حيث يخشى الدبلوماسيون من أن يتم استغلالها من قبل بكين، لتقويض قواعد الاتحاد واستغلال التوترات المتزايدة بين الشرق والغرب في الكتلة نفسها.
العامل المساعد في هذه المجموعة هو قدرة الصين على تمويل وبناء الطرق والسكك الحديدية ومحطات الكهرباء وغيرها من البنى التحتية، التي تحتاج إليها بعض بلدان أوروبا الشرقية والوسطى الأكثر فقرا.
على أن نطاق عملياتها امتد ليصل إلى مجالات استراتيجية وسياسية بشكل علني، ما يزيد من انعدام الثقة بين بعض القوى الأوروبية الغربية التي تهيمن على جدول أعمال الاتحاد الأوروبي.
يقول دبلوماسي أوروبي امتنع عن الكشف عن هويته بسبب الطبيعة الحساسة للموضوع: "هذا النهج الإقليمي الفرعي (16+1) يلقى قدرا كبيرا من الارتياب، ليس في بروكسل فحسب، بل كذلك في عواصم كثير من الدول الأعضاء".
يقول دبلوماسي أوروبي آخر رفيع المستوى، طلب أيضا عدم الكشف عن هويته: "يتعامل فريق (16+1) مع كثير من الأمور. بعضها يَمَس اختصاصات الاتحاد الأوروبي، أو أنها تتدخل في مجالات جديدة توجد فيها بالأصل مبادرات بين الاتحاد الأوروبي والصين. وما نراه نحن ما هو إلا غيض من فيض".
مع ذلك، وفي الوقت الذي تحضر فيه بلدان المجموعة ال 16- المجر وبلغاريا ورومانيا وبولندا والبوسنة والهرسك وصربيا وكرواتيا وسلوفينيا وسلوفاكيا وألبانيا ومقدونيا والجبل الأسود وجمهورية التشيك وليتوانيا ولاتفيا وإستونيا - اجتماع قمة سنويا في بودابست، من الواضح أن نجم بكين آخذ في الارتفاع لدى بلدان أوروبا الشرقية والوسطى.
قال فيكتور أوربان، رئيس وزراء المجر في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي: "مركز ثقل الاقتصاد العالمي آخذ في التحول من الغرب إلى الشرق، في الوقت الذي لا يزال فيه هنالك بعض الإنكار لهذا الأمر في العالم الغربي، ولا يبدو ذلك أمرا معقولا. نحن نشهد تحول مركز ثقل الاقتصاد العالمي من منطقة الأطلسي إلى منطقة المحيط الهادئ. هذا ليس رأيي - إنها حقيقة".
الإغراء لا لبس فيه بالنسبة لبلدان أوروبا الشرقية والوسطى. منذ عام 2012، أعلنت الشركات الصينية المدعومة من قبل مصارف الدولة، عن استثمارات تقدر قيمتها بـ 15 مليار دولار في البنى التحتية وغيرها من الصناعات ذات الصلة، وفقا لبيانات جمعها "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية"، مركز فكري في واشنطن، بالتعاون مع صحيفة فاينانشيال تايمز.
يقول جوناثان هيلمان، مدير "مشروع إعادة ربط آسيا" التابع لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية: "بالنسبة للصين، البلدان الـ16 مهمة في حد ذاتها، لكنها أيضا بمثابة جسر للوصول إلى الاتحاد الأوروبي".
في الوقت الذي تكون فيه هذه الأرقام متواضعة مقارنة بالأموال الهيكلية المستثمرة في تلك الدول من قبل الاتحاد الأوروبي، التي تصل إلى نحو 80 مليار يورو لبولندا وحدها لموازنات الأعوام 2014-2020، يتم الترحيب بالاستثمارات الصينية الموعودة من قبل البلدان المستفيدة.
صربيا، التي تربطها بالصين "شراكة استراتيجية شاملة" و"صداقة تتحمل كل الظروف"، من المقرر أن تحصل على ما يقدر ب 1.9 مليار دولار من أجل مشاريع الاستثمار في البنى التحتية، وفقا لبيانات المركز.
أما المجر التي يربطها مع الصين رسميا "مستوى مرتفع من الثقة المتبادلة"، فقد وعدت بأن تحصل على ما يقدر ب 1.5 مليار دولار.
ميلوس زيمان، الرئيس التشيكي، وصف العام الماضي بلده - والذي أعلن فيه عما يعادل ثلاثة مليارات دولار من الصفقات - بأنه "بوابة جمهورية الصين الشعبية إلى الاتحاد الأوروبي".
بالنسبة للبعض في الاتحاد الأوروبي، هنالك نوعان من مصادر القلق الرئيسة، الأول: هو أن الصين قد تكثف جهودها لاستخدام نفوذها الذي تقوم ببنائه في أوروبا الوسطى والشرقية، لإحباط الجوانب الخاصة بالسياسة المشتركة التي يتبعها الاتحاد الأوروبي تجاه الصين.
أما الثاني فهو أن بعض بلدان فريق (16+1) ربما تستغل العلاقات القوية مع الصين لتدعيم مواقف تفاوضية ضد بروكسل.
يقول دبلوماسيون أوروبيون إن مثل هذه الخطوات المهمة من شأنها أن تقوض فعالية بروكسل في العلاقات التي غالبا ما تكون متوترة مع ثاني أكبر شريك تجاري لها.
أحد مصادر القلق هو أن جهود الصين للحصول على عقود مضمونة لشركاتها سيقوض قواعد السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالمشتريات العامة.
القضية ذات أهمية خاصة في الوقت الذي تبذل فيه بروكسل جهودا قوية لتنفيذ عملية تفحص للاستثمارات الواردة مقابل معارضة حازمة من بكين، التي قامت بضخ مبالغ قياسية من الأموال إلى أوروبا في السنوات الأخيرة.
المشاعر تتسم بالتوتر والغضب. في أيلول (سبتمبر) الماضي، طالب سيجمار جابريل، نائب المستشارة الألمانية ووزير الخارجية، بكين باحترام مفهوم "أوروبا الواحدة"، مضيفا: "إن لم ننجح على سبيل المثال في تطوير استراتيجية موحدة في التعامل مع الصين، حينها ستنجح الصين في تقسيم أوروبا".
أعلنت وزارة الخارجية في بكين عن "شعورها بالصدمة" من البيان الذي أدلى به جابريل. كوي هونجيان، مدير في المركز الفكري التابع لوزارة الخارجية المعروف بـ "معهد الصين للدراسات الدولية"، كتب في صحيفة جلوبال تايمز التي تملكها الدولة: "إن مفهوم جابريل المتمثل في "أوروبا الموحدة" هو في غير محله، ومخاوفه إزاء مجموعة (16+1) لا أساس لها.
وقال: "إن طلب جابريل من الصين أن تتخذ موقفا تجاه ’أوروبا الموحدة‘، غريب، لأن وجود أوروبا واحدة أمر ممكن من الناحية الجغرافية، لكنه ليس كذلك من حيث السياسة والاقتصاد".
عند إطلاق المجموعة، وصفت بكين التعاون بين الصين وبلدان أوروبا الشرقية والوسطى، لمنح المشروع صفته الرسمية، بأنه مبادرة لتعزيز العلاقات.
وفي الوقت الذي أكدت فيه على الفرص التجارية، كانت نواياها الدبلوماسية واضحة. يجري إدارة المنظمة من قبل أمانة عامة في بكين ترأسها وزارة الخارجية.
وعلى الرغم من أن المجموعة تبدو متعددة الأطراف في هيكلها التركيبي، مثل الاتحاد الأوروبي، إلا أنها ثنائية الأطراف عمليا، حيث التوجيهات تصدر من بكين إلى البلدان الأوروبية الأعضاء التي يبلغ عددها 16 بلدا.
وجميع كبار المسؤولين هم من الصينيين. المشاركة الأوروبية تكون من خلال "منسقين من البلدان". بالنسبة لبكين، يتبنى هذا التجمع خليطا من الأهداف الاستراتيجية والتجارية. ترغب الصين في تعزيز روابط الاستثمار والتجارة مع الحلفاء الاشتراكيين السابقين.
وهي ترى أيضا أن البلدان الـ 16 هي بوابة رئيسة لأوروبا الغربية وبوابة مهمة لمبادرة الحزام والطريق في بكين، التي تسعى للفوز بالأسواق والحلفاء الدبلوماسيين في 64 بلدا بين آسيا وأوروبا - وهي أولوية بالنسبة للزعيم الصيني القوي تشي جين بينج.
إضافة إلى دوافعها التجارية المعلنة، تستخدم بكين علاقاتها لغايات سياسية. في اجتماع القمة الذي عقدته مجموعة (16+1) العام الماضي في ريجا، على سبيل المثال، دعا لي كه تشيانج، رئيس وزراء الصين، حكومات البلدان الـ 16 إلى "حل القضايا الساخنة بالشكل السليم والحفاظ على السلام والاستقرار الإقليمي في العالم"، وفقا لوكالة أنباء شينخوا الصينية الرسمية.
تم تفسير ذلك من قبل بعض الدبلوماسيين الأوروبيين بأنه دعوة للبلدان الـ 16 لدعم موقف الصين بشأن قضية جزر بحر الصين الجنوبي المتنازع عليها وغيرها من القضايا الجغرافية السياسية التي تهم بكين، مثل مواجهة الدالاي لاما، الزعيم الروحي للتبت الذي يعيش في المنفى، ومعارضة أي تحرك من جانب تايوان نحو نيل الاستقلال عن البر الرئيس في الصين أو النزعات الانفصالية لدى قومية الإيجور المسلمة في كسيانج "تركستان الشرقية".
أصبحت الفوائد المحتملة لنفوذ الصين واضحة في العام الماضي عندما ناقش الاتحاد الأوروبي كيفية الرد على حكم المحكمة الدولية، الذي يقضي بأن مطالبات الصين بالحقوق والموارد في بحر الصين الجنوبي لا تنسجم مع القانون الدولي.
وفقا لدبلوماسيين أوروبيين بعد ثلاثة أيام من المحادثات الصعبة بين البلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، التي يبلغ عددها 28 بلدا، نجحت المعارضة - بشكل رئيس من قبل المجر واليونان - في إضعاف البيان إلى درجة أنه لم يذكر الصين بشكل مباشر.
أحدث نقطة اشتعال هي عملية تفحص لاستثمارات اقترحها جان- كلود يونكر، رئيس المفوضية الأوروبية، في أيلول (سبتمبر) الماضي، على أساس أن الاتحاد الأوروبي بحاجة "لحماية أمنه الجماعي".
أصر يونكر على أن عمليات الاستحواذ على مشاريع رئيسة في البنية التحتية أو في شركات التكنولوجيا العسكرية، ينبغي أن تحدث فقط "من خلال الشفافية، مع التدقيق والحوار".
هذه الخطة هي علامة على وجود انقسام عميق بين الدول الأعضاء حول مدى الانفتاح الذي يجب أن تتسم به سياسة التجارة في الاتحاد الأوروبي. أعربت بعض البلدان، بما فيها فنلندا وهولندا والبرتغال، عن مخاوفها إزاء تدخل الاتحاد الأوروبي في منطقة تعتبر ذات اختصاص حصري للبلدان نفسها. إلا أنه وفقا لدبلوماسيين وخبراء في السياسة، أثبتت جهود الضغط التي تقوم بها الصين أنها ناجحة بالأصل في إضعاف عملية المراجعة المقترحة، التي تراها بكين بأنها "شقيق صغير" للجنة الاستثمارات الأجنبية في الولايات المتحدة.
يشار إلى أن اللجنة الأمريكية حظرت عددا من الصفقات الصينية في السنوات الأخيرة. مشروع المقترح الأوروبي لم يصل إلى حد منح بروكسل السلطة لإكراه البلدان على حظر ومراجعة أحكام عمليات الاستحواذ التي تقوم بها الشركات. بدلا من ذلك، يقدم أساسا قانونيا لطلب تفاصيل حول عمليات الاستحواذ التي تحصل، ويسمح لمؤسسات الاتحاد الأوروبي بتقديم التوجيه للدول الأعضاء، بحسب ما يقول الدبلوماسيون. جان جاسبرز، رئيس وحدة سياسة الصين الأوروبية في مركز ميريكس الفكري في برلين، يقول إن بعض بلدان فريق (16+1) المشاركة في المحادثات تقف إلى جانب الصين. ويضيف أن: "خلال فترة الصيف، كان لعدد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي من فريق (16+1) بالأصل يد في تخفيف ما كان يفترض أن يكون أصلا مشروع تدقيق للاستثمارات أكثر طموحا بكثير من الاتحاد الأوروبي، وهو مشروع كان من شأنه أن يقدم كفاءات تدقيق حقيقية لبروكسل".
يجادل البعض أن سجل الصين في أوروبا الوسطى والشرقية يجعل الحاجة إلى إجراء عملية مراجعة ضرورة تامة. إخفاق المجر في فتح القسم التابع لها من خط السكة الحديدية فائق السرعة بطول 350 كيلومترا وبكلفة 2.9 مليار دولار، الذي يمتد من بلغراد إلى بودابست، أمام العروض التنافسية، استثار تحقيقا أجرته المفوضية حول ما إذا كان هذا المشروع ينتهك قوانين الاتحاد الأوروبي.
كما أن هنالك مشاريع أخرى في بلدان فريق (16+1) غارقة في الخلافات المثيرة للجدل. في مقدونيا، حظرت وزارة النقل والاتصالات استكمال مشروع طريق سريع تموله الصين بكلفة 373 مليون يورو وطول 57 كيلومترا، وسط مزاعم بوجود خسائر في ميزانية الدولة بقيمة 155 مليون يورو.
تم تمويل المشروع بشكل رئيس من خلال قرض من "بنك الصين للاستيراد والتصدير" وتم تنفيذه من قبل شركة ساينو هايدرو للإنشاءات التي تملكها الدولة الصينية. وقعت جمهورية الجبل الأسود على اتفاقية بقيمة 800 مليون يورو مع "بنك الصين للاستيراد والتصدير" في عام 2014 لتمويل طريق من ميناء بار إلى صربيا، حتى بعد أن حذر صندوق النقد الدولي من أن الاتفاقية المبرمة على أساس القرض تهدد الاستقرار في المالية العامة للدولة.
وثمة مخاوف أخرى في بعض العواصم تتمثل في احتمالية أن تشكل مبادرات بلدان الفريق (16+1) مستقبل الأصوات الانتخابية في الاتحاد الأوروبي.
يتطلب الاتحاد إجماعا في معظم المسائل المتعلقة بالسياسة الأمنية والسياسة الخارجية المشتركة، بما في ذلك العقوبات – ما يمنح من الناحية العملية حق النقض لكل عضو. إذا حصلت المجموعة على عضوين آخرين من بلدان الاتحاد الأوروبي، فإن تصويت 13 دولة منها بالرفض من شأنه أن يكون كافيا لهزيمة تدابير الاتحاد الأوروبي المقررة بموجب تصويت الأغلبية المؤهلة، التي تستخدم في نحو 80 في المائة من التشريعات.
يدافع أحد الدبلوماسيين من أحد بلدان فريق (16+1) عن المجموعة بأنها "أداة اقتصادية" تعمل "بشفافية مطلقة".
يقول الدبلوماسي: "أعلم أن هنالك أشخاصا يشعرون بعدم الارتياح إزاء هذا الأمر، لكننا نقول لأعضاء الفريق (16+1) وأيضا إلى الشعب الصيني، إننا عضو في الاتحاد الأوروبي ونتبع جميع مواقف الاتحاد الأوروبي المشتركة فيما يتعلق بالصين".
في صربيا، المرشحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، يعمل الانجذاب نحو الصين من جهة، وعملية الشد من ناحية الاتحاد الأوروبي من الجهة الأخرى، على خلق انقسام في الولاءات.
التهديد المتمثل في عملية التفحص التي سيجريها الاتحاد الأوروبي من شأنه أن يصد الاستثمارات الصينية التي تحتاج إليها صربيا للتطور بشكل كاف يؤهلها للانضمام للاتحاد الأوروبي، بحسب ما كتب فلاديمير كرولي، مستشار اقتصادي خاص لبلغراد، في صحيفة فاينانشيال تايمز. يعترف بعض المتشككين بأن الخلاف حول فريق (16+1) هو علامة على توترات أوسع نطاقا في الاتحاد الأوروبي، لا سيما بين بعض الدول الأعضاء الغربية والشرقية. تعرضت بروكسل لنزاع مع المجر وبولندا حول انتهاكات مزعومة لقواعد وقيم الاتحاد الأوروبي.
يقول هيلمان: "يجب علينا توقع أن تقوم الصين بالاستفادة من الفريق لتحقيق مصالحها الخاصة داخل الاتحاد الأوروبي. وهذه دبلوماسية استراتيجية: بناء علاقات في المكان الذي تتمتع فيه بمزيد من النفوذ وتطبيق تلك العلاقات الجديدة حيث لديك نفوذ أقل. إن فازت الصين بأصدقاء لها، لماذا لا تقوم أيضا بالتأثير في الأشخاص؟"
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES