Author

«التأثير» .. آليات وأدوات ومحتوى

|

عمليات التواصل والتفاعل الاجتماعي ينجم عنها تأثير من طرف في الآخر، أو تأثير متبادل، أو هكذا يؤمل من أحد الطرفين، أو كليهما، إلا أن عملية التأثير لها آليات، وأدوات، وأساليب، ومحتوى، لتشكل هذه العناصر الحزمة المطلوبة لإحداث التأثير الذي ينتهي إلى تغيير في الفكر، أو السلوك. اللقاء المباشر بين شخصين يمثل أول صور التأثير، كما في حالة البيع، والشراء، أو في التدريس، إلا أن الكتابة مثلت تحولا جديدا في الآليات، رغم أن الوثائق أو الكتب مثال على أدوات التأثير من طرف واحد لافتقادها التفاعل، والأخذ، والرد، والحوار، فما يحدث أن المتلقي يتأمل، ويفكر، ويقرر لنفسه ما يقبل ويرفض، دون أن يكون في مقدوره تغيير شيء في المحتوى، وهذا الأمر ينطبق على الصحف، والمجلات التي استجدت، كآلية خطاب جماهيري، مع إمكانية التفاعل غير المباشر من خلال الرد والتعقيب على مقال، أو خبر.
بعد اختراع المذياع كان التأثير في البداية يأتي من طرف واحد، ليصب في أذن وعقل المتلقي، وبقدر قوة المحتوى المبثوث عبر الأثير، وأسلوب طرحه من حيث جاذبيته وإغرائه يكون التأثير، إلا أنه مع الوقت تغير الأسلوب في طرح القضايا، حيث وجدت البرامج الحوارية في الإذاعات والقنوات الفضائية، وأصبح الجمهور له دوره في طرح القضايا التي يراها مهمة، وتمس حياته، وتلامس همومه، كما أصبح له دور في توجيه الرأي العام، حيث وجد في هذه البرامج فرصة يعبر من خلالها عن رأيه في القضايا المطروحة، ولم يعد الرأي مقتصرا على رأي مُعِد البرنامج.
في برنامج حواري إذاعي على إحدى الإذاعات الأمريكية، كان الموضوع المطروح للنقاش حقوق الإنسان، وبمتابعتي لتلك الحلقة اتصل أمريكي، وتحدث عن حقوق الإنسان الفلسطيني المسلوبة، والمنتهكة من قبل الصهاينة، جلاديه، وسارقي أرضه. بذل المذيع جهودا في المقاطعة، والتشويش على المتداخل، بهدف التأثير في المستمعين، حتى لا يصدقوا ما يقوله المتداخل. وما إن انتهى من مداخلته، حتى تنفس المذيع الصعداء، وبدأ بالاعتذار عما حدث، مستخدما أقصى ما لديه من بلاغة في محاولة لتشويه ما قاله المتداخل، ومسحه من عقول المستمعين، لقد أحسست وقتها كأن أحدا يقف على رأس المذيع ويهدده في حياته، لذا جاءت عبارات الاعتذار حارة وقوية ومكررة.
أوردت هذا المثال كنموذج لعملية التأثير، والإقناع التي تمارس على مدار الساعة، في المجالس الرسمية، وغير الرسمية، كجلسة عائلية، أو جلسة أصدقاء، كل واحد منهم يحاول أن يؤثر في الآخرين، في محاولة لإقناعهم بتبني رأيه، وتقبله في تفسير حدث، أو ظاهرة من الظواهر، إلا أن التأثير ربما يحدث، أو لا يحدث، حسب قوة الحجة، وصحة المعلومة وأسلوب الطرح، ومكانة المتحدث، إن كان ذا سلطة، أو يتحدث في موضوع، معروف تمكنه فيه، فرأي فقهي يُقبَل لو جاء من رجل معروف في مجال الفقه، وله باع طويل فيه، لكن الرأي قد يُرفَض، لو جاء من مهندس، مع أن رأيه الفقهي قد يكون صحيحا.
أسلوب العرض، أو المحاجة يأخذ صورا شتى، فالفكرة قد تمرر من خلال نكتة عابرة، أو من خلال قصة مشوقة، أو بأسلوب علمي ممنهج، يسير وفق خطوات محددة. وعلى حسب وضع الطرف الثاني كمتلق، أو محاجج يكون التأثير، فالعالم ربما يفضل الطرح العلمي الرصين، المدعم بالأدلة والبراهين القائم على أسس منطقية، بينما الأقل تعليما وثقافة قد يفضل أسلوبا لينا يتناسب مع مستوى تفكيره، فالتفاصيل الكثيرة، والتشعبات تحدث لديه الملل، وعدم التركيز، ومن ثم عدم تقبل الشيء المطروح من أساسه، ولذا فكرة المسرح، كأداة تأثير جماهيري، قائمة على أسلوب التهريج والضحك، لتمرير ما يرغب من أفكار تتحول إلى قناعات لدى الجمهور مع ضعف المحتوى، فلو عرض بصورة تقليدية ليس فيها تشويق لما وجد من يقتنع بها.
الإعلام الحديث أحدث ثورة كبيرة في آليات وأسلوب عرض البيانات والمحتوى في "تويتر، وسناب شات، وفيسبوك، وواتساب"، ولم يعد العرض وفق الأسلوب التقليدي الممل الذي عَدّه الناس وفق الإعلام الرسمي، كما أن حرية التواصل مع الآخرين، وبث أي مادة ومحتوى ما أوجد مناخا لا يمكن التحكم فيه وتوجيهه من جهات رسمية ورقابية.
تبني الفكرة وقبولها، ولو ظاهريا، والاستماتة في الدفاع عنها يعتمد على المصلحة المترتبة عليها، فمقدار المنفعة يحول الفرد أو الجمهور إلى داعم قوي، رغم أنها تتعارض مع ثوابت أساسية، وهذا ما يلاحظ في بعض المجتمعات، إذ يتم تجنيد البعض لتبني رأي، والحديث والكتابة بشأنه لإحداث قناعات لدى الناس تترتب عليها تحولات في نمط الحياة الاجتماعية.

إنشرها