Author

الذكاء الاصطناعي .. نحو عصر جديد

|

كانت المعرفة عبر التاريخ تقدم بين فترة وأخرى، معطيات تقنية جديدة، تؤدي إلى تغيير أسلوب حياة الإنسان، وتنقله من عصر إلى عصر جديد. وقد شهد القرن الـ 18 للميلاد ظهور الآلة البخارية التي غيرت أسلوب حياة الإنسان، من خلال ما استطاعت أن تقدمه من وسائل نقل جديدة، وصناعات غير مسبوقة، وأعمال لم تكن متاحة. وسُمِّي هذا التغيير "الثورة الصناعية"؛ وهو يدعى اليوم "بالثورة الصناعية الأولى"؛ نظرا لأن العطاء المعرفي المتميز استمر متسارعا بعد ذلك، وأدى إلى ظهور ثورات صناعية جديدة، قدمت تقنيات مبتكرة أخرى، أحدثت مزيدا من التغيرات في حياة الإنسان، بما لا يقل عما أحدثته الآلة البخارية.
وطبقا لتقسيمات العصور التالية، انطلقت الثورة الصناعية الثانية مع الانتقال من القرن الـ 19 للميلاد إلى القرن الـ 20، حيث ظهرت السيارة وانطلقت الطائرة، وبرز الهاتف مع وسائل اتصال مختلفة، وانتشرت الطاقة الكهربائية، وعمت الإنارة شوارع المدن، ومباني المؤسسات ومنازل السكان. وفي مطلع الثمانينيات من القرن الـ 20، جاءت الثورة الصناعية الثالثة حاملة معها انتشار التقنية الرقمية، وعلى رأسها الحاسوب الشخصي والإنترنت. وهكذا تسارع توليد المعرفة، وتسارعت معطياتها التي لم تكن استجابة لاحتياجات الإنسان الظاهرة فقط، بل لاحتياجات كامنة لديه أدت إلى استقباله المعطيات الجديدة بحماس وشوق.
مع مطلع القرن الـ21، برزت معطيات معرفية جديدة واعدة، تأسست على ما سبق، لتتقدم وتحتل مركز الصدارة فيما بات يعرف "بالثورة الصناعية الرابعة". على رأس هذه المعطيات الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، وتقنية النانو، والتقنية الحيوية، وغيرها. وسنركز في هذا المقال على الذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence، الذي يدعى أيضا ذكاء الآلةMachine Intelligence، والذي يرتبط بموضوع الروبوت Robot الذي يعتمد على ذكاء الآلة؛ كما سنسعى إلى طرح دوره المنتظر في بزوغ عصر جديد لكل إنسان حيثما كان.
لعل بين أبرز بدايات علم الذكاء الاصطناعي، ذلك التساؤل الذي طرحه ألان تورينج Alan Turing أحد مصممي الحاسب الآلي، في بدايات ظهوره عام 1950؛ حيث قال: هل تستطيع الآلة أن تفكر؟ انتشر هذا التساؤل في الأوساط العلمية، لتبدأ الأبحاث بشأنه. وكان بين تداعيات ذلك إنشاء قسم علوم الحاسب والذكاء الاصطناعي في معهد ماساشوستس التقني MIT الشهير عام 1959 على يد مارفن مينسكي Marvin Minsky. وتم، في ذلك الوقت، وضع التعريف التالي لهذا العلم: "الذكاء الاصطناعي هو العلم الذي يجعل الآلة تقوم بالأعمال الذكية التي يقوم بها الإنسان".
تتلخص الأعمال الذكية التي يقوم بها الإنسان في أربع وظائف رئيسة: تتمثل الأولى في تلقي المعلومات من مصادر خارجية أو داخلية عن طريق أحاسيسه المختلفة؛ وتتجلى الثانية في فهم واستيعاب ما يتلقى من معلومات؛ وتتركز الثالثة في التعلم والتفكير والتحليل واكتساب الخبرة؛ وتتضح الرابعة في التوصل إلى نتيجة والتعبير عنها في قرارات ونشاطات محددة. ووسيلة الإنسان الرئيسة في تنفيذ هذه الوظائف هي الدماغ، وما يرتبط به من أجهزة أخرى حسية ومادية في جسم الإنسان.
ويقوم دماغ الإنسان بعمله من خلال شبكته (البيولوجية) الحيوية التي تحتوي وسطيا على نحو 100 مليار خلية عصبية، تتصل كل منها وسطيا بنحو عشرة آلاف خلية أخرى تتفاعل معها. وتعمل هذه الخلايا على تلقي المعلومات وإرسالها، إضافة إلى تخزينها ومعالجتها، ليؤدي ذلك، بالتواصل مع أجهزة الإنسان الأخرى، إلى تنفيذ الوظائف الذكية الرئيسة الأربع.
يحاول الذكاء الاصطناعي محاكاة الوظائف الذكية للإنسان. ووسيلته إلى ذلك: مكونات مادية ذات طبيعة إلكترونية رقمية تستطيع التواصل مع أنظمة أخرى مختلفة، تتلقى منها المدخلات المعلوماتية، وتعطيها المخرجات الذكية؛ ويضاف إلى ذلك، مكونات برمجية حاسوبية تستند إلى خوارزميات خاصة توجه عمل المكونات المادية الإلكترونية، وما يرتبط بها من مكونات أخرى. ولعل بين أبرز تطورات المكونات المادية بناء حواسيب الشبكة العصبية Neuro-Net Computers التي تحاول محاكاة تكوين دماغ الإنسان؛ وبين أهم تطورات المكونات البرمجية، تزايد إمكانات خوارزميات تعلم الآلة Machine Learning واكتساب الخبرة في مختلف المجالات.
على أرض الواقع، يشهد علم الذكاء الاصطناعي اهتماما متزايدا، كما تشهد تطبيقاته اهتماما في مختلف مجالات الحياة. ومن هذه التطبيقات التعرف على الصور، وتمييز الأصوات، والترجمة الآلية بين اللغات الإنسانية؛ والتعرف على متطلبات مستخدمي التطبيقات المختلفة على الإنترنت، كما تفعل أنظمة جوجل Google؛ إضافة إلى بناء أجهزة آلية لتنفيذ أعمال مختلفة، مثل السائق الآلي للسيارة؛ وغير ذلك.
وقد أثبتت بعض الإنجازات أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يتفوق على ذكاء الإنسان. فقد استطاع حاسوب شركة آي بي إم IBM الذي يحمل لقب "الأزرق العميق" Deep Blue، عام 1997، أن يتغلب في لعبة الشطرنج على كاري كاسباروف Carry Kasparov أهم لاعب شطرنج عرفته اللعبة. كما استطاع حاسوب جوجل Google المسمى "ألفا-جو" Alpha-Go، عام 2016، أن يتغلب على لي سيدول Lee Sedol الذي كان بطل العالم في هذه اللعبة. ولعله لا بد هنا من إبداء ملاحظة مهمة بشأن علم الذكاء الاصطناعي، وهي أن هذا العلم هو علم وسيط يتداخل مع مختلف مجالات العلوم والأعمال في شتى قضايا الحياة. فلأنه يسعى إلى محاكاة ذكاء الإنسان، فإن عليه أن يتفاعل مع مختلف المجالات المعرفية التي يتعامل معها الإنسان؛ وهي بلا شك واسعة المدى، وتغطي مختلف جوانب الحياة. ولا شك أن هذا الأمر يفتح الباب واسعا أمام شبابنا الطامحين إلى العطاء العلمي والتقني، وأمام مستثمرينا الواعين، للإسهام في تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي متطورة، نحتاج إليها ويحتاج إليها العالم، تقدم فوائد في مختلف المجالات، وتستطيع الإسهام في التنمية وتعزيز استدامتها.
وإضافة إلى ما سبق، تجدر الإشارة إلى أن تطور علم الذكاء الاصطناعي وتوسع تطبيقاته، وانفتاح آفاقه المستقبلية، تقود إلى التساؤل القائل: هل سيتفوق الذكاء الاصطناعي على ذكاء الإنسان في مختلف المجالات؟ وهل سيؤدي ذلك إلى بطالة واسعة النطاق نتيجة استبدال الإنسان بأنظمة الروبوت؟ وماذا ستكون النتائج الاجتماعية لكل ذلك؟ ولعلنا نعود في مقال قادم إلى مناقشة مثل هذه التساؤلات.

إنشرها