FINANCIAL TIMES

معظم الأمريكيين لا يثقون بالإعلام .. كيف يمكن تبديل قناعاتهم؟

معظم الأمريكيين لا يثقون بالإعلام .. كيف يمكن تبديل قناعاتهم؟

كيفن ويليس يتذكر اللحظة التي سمع فيها عن المجزرة. ويليس، مدير قسم الأخبار في WKYU، وهي محطة الإذاعة العامة في غربي كنتاكي، كان يتفقد رسائل الليلة السابقة في صالة الألعاب الرياضية في صباح أحد أيام شباط (فبراير) عندما شاهد أول التغريدات التي تحثه على البدء في الإبلاغ عن مذبحة بولينج جرين.
"لا أستطيع أن أحدثك عن الخوف الذي اعتراني"، يقول ويليس وهو يجلس في استوديو بولينج جرين الضيق الذي يبث منه برامجه التي يستمع إليها الناس في طريقهم من وإلى العمل. هل غفل عن مجزرة فظيعة وقعت على عتبة داره؟
لم يكن ويليس بحاجة إلى كثير من التقارير كي يفهم أنه لم يكن هناك حمام دم. في الليلة السابقة دافعت كيليان كونواي، المستشارة لدى دونالد ترمب، عن حظر على السفر مفروض من قبل الرئيس على رعايا سبعة بلدان، من خلال إخبار أحد المراسلين بأن اثنين من اللاجئين العراقيين "كانا العقل المدبر وراء مذبحة بولينج جرين". وفي انتقاد مألوف ضد وسائل الإعلام، أضافت: "معظم الناس لا يعرفون ذلك لأن وسائل الإعلام لم تغط الخبر".
لم تحصل تغطية للخبر من قبل وسائل الإعلام، لأنه لم يحدث أصلا. يبدو أن كونواي كانت تشير إلى إدانة عراقيين اثنين من بولينج جرين في عام 2011 بتهمة محاولة مساعدة القاعدة في العراق، لكنهما لم ينفذا أي هجوم في الولايات المتحدة، كما أفادت محطة الإذاعة العامة وغيرها في ذلك الوقت. عبارة "الحقائق البديلة" لكونواي احتلت عناوين صحف رئيسية لبضعة أيام، وأعرب معلقون ليبراليون عن قلقهم من التعليق الذي يخالف الحقيقة الصادر من موظفة البيت الأبيض، في حين بثت وسائل المحافظين مواد متعاطفة مع ردود كيليان الانتقامية على بيانات صحافية وصفها الرئيس بأنها عدو الشعب الأمريكي.
لا أذكر متى سمعت عن المجزرة التي لم تحدث. وباعتباري محرر الأخبار الأمريكية في "فاينانشيال تايمز" فإنني أتعامل مع تقارير إخبارية حول الأخبار والضوضاء التي يولدها ترمب أكثر مما يمكنني الاحتفاظ به في ذاكرتي، وكان هذا عرضا جانبيا قررنا عدم تغطيته. لكن في الأشهر التسعة التي انقضت منذ تلك العاصفة الإعلامية الصغيرة، كنت أراقب الوضع في الوقت الذي أصبح فيه من الواضح بشكل متزايد أن مهنتي لديها مشكلة ينبغي القلق حولها أكثر بكثير من صدقية المعلومات التي تتدفق من البيت الأبيض في عهد ترمب، وهي أن معظم الأمريكيين لا يصدقوننا.
وفقا لمعهد جالوب، بلغت ثقة الأمريكيين بوسائل الإعلام ذروتها عند 72 في المائة في عام 1976، السنة التي وصل فيها فيلم "كل رجال الرئيس" إلى دور السينما. وبحلول العام الماضي انخفض هذا الرقم إلى 32 في المائة، وإلى 14 في المائة فقط بين الجمهوريين.

تلفيق الأخبار

أمريكا ليست فريدة في هذا الأمر، لكن قلة من البلدان (بخلاف أمريكا) هي التي تتحدد فيها وجهات نظر الصحافيين بشكل أكبر من خلال الولاء الحزبي. ولم يحدث في أي بلد آخر أن استغل الرئيس عدم الثقة هذا ليكون سلاحا في يده. في تشرين الأول (أكتوبر) وحده استهدف ترمب وسائل الإعلام في أكثر من 30 تغريدة، وأشار إلى أن تراخيص هيئات البث ربما يجب إلغاؤها بسبب تغطيتها "المشوهة"، وأخبر "فوكس نيوز" – إحدى الشبكات التي يثني عليها باستمرار – عن مدى فخره بوصف السلطة الرابعة بأنها مزيفة.
لديه سبب وجيه كي يعتبر هذا إنجازا، في الوقت الذي يحقق فيه النجاح في حربه على وسائل الإعلام (أو أن تعريفه لوسائل الإعلام المزيفة يستبعد برايتبارت، ودرودج، وفوكس والكثير من برامج اللقاءات الإذاعية). ووجد استطلاع للرأي من Politico/Morning Consult في تشرين الأول (أكتوبر) أن 46 في المائة من الأمريكيين يصدقون بأن المنظمات الإخبارية تلفق مواضيع حول ترمب، وأكثر من ثلاثة أرباع الجمهوريين يعتقدون أننا نخترع تلك المواضيع. وهناك المزيد من الأمريكيين الذين يعرفون الآن "الأخبار المزيفة" بأنها تقارير ضعيفة أو منحازة بدلا من أن تكون من تأليف البيت الأبيض.
ولأني على علم بالعواقب التي سأواجهها أنا وزملائي في حال اختلقنا موضوعا ما، أجد أن هذه الاستطلاعات محيرة ومثيرة للقلق. من المغري أن نتلاعب بالمنهجية، أو حتى نشعر بالإحباط من الذين لا يفهمون كيف نعمل، لكننا نشعر أن من الأهم أن ندرس كيف أصبحنا عرضة لتهمة "الأخبار المزيفة".
لذلك، ولأنني أريد أن أغير المنظور الذي أنطلق منه، بعد أن قضيت فترة طويلة فوق الحد وأنا أعمل من مكتبي في نيويورك، قررت أن أشرع في التساؤل عن السبب الذي يجعل الكثير من الناس يشكون في الأخبار - وكيف يمكننا إعادة الاتصال مع الأمريكيين الذين يعتقدون بإخلاص أننا كذابون.
بولينج جرين التي أصبحت عن غير قصد مرادفا للأخبار الوهمية في ولاية جمهورية، كانت ديمقراطية في الماضي، تبدو مكانا جيدا للبدء. هذه المدينة التي تشتهر بمعركة وقعت أثناء الحرب الأهلية، وبمتحف كورفيت الوطني، والسيناتور الجمهوري المقيم فيها، راند بول، يبلغ عدد سكانها 65 ألف شخص وتقع في مقاطعة صوتت بنسبة 62.5 في المائة لمصلحة ترمب. وبتفحص برامج اللقاءات الإذاعية خلال مسافة قصيرة بالسيارة من ناشفيل إلى الساحة الرئيسية الهادئة في المدينة، ليس من الصعب العثور على مضيفين يرغبون في التأكيد على الاسم الأوسط لباراك حسين أوباما، وفي مطعم "مشاوي الخنزير المدخن" يمكنك أن تكون متأكدا من أن صاحب المطعم يبقي التلفزيون مفتوحا على قناة فوكس. لكن بولينج جرين هي أيضا موطن للطلاب الليبراليين في الحرم الجامعي المتنامي في جامعة ويسترن كنتاكي، ومركزا لإعادة توطين أكثر من عشرة آلاف لاجئ منذ عام 1981. بالتالي هي ليست صورة كاريكاتيرية لبلد ترمب.
يقول كريس كاراكر، صاحب حانة "بلو هولر برو سبلايز": "أعتقد أن أماكن مثل بولينج جرين هي ما تشعر به أغلبية أمريكا".
عندما يتحدث عن الأخبار المزيفة، فإن مجزرة كونواي الملفقة ليست هي ما يدور في ذهنه. يقول: "لا أؤمن بنصف الأشياء التي أقرأها أو أسمعها على الأخبار. سي إن إن، وإيه بي سي، وفوكس، سأقول 75 في المائة من المواضيع صحيحة، لكن الحقائق ليست في الموضوع: إنها رأي شخصي". مضى أكثر من أربعة عقود منذ أن اختير والتر كرونكايت (من خلال التصويت) على أنه أكثر رجل موثوق به في أمريكا، وكاراكر يحن إلى الأخبار الصادقة المباشرة التي كان يجسدها المتوفى كرونكايت، المذيع الرئيسي في شبكة سي بي إس نيوز. "المشكلة الأكبر هي أن الجميع نسي أن اليسار واليمين لا يزالان جناحين لنفس الطائر. وأنهما من المفترض أن يعملا معا حتى تتمكن من الطيران".
يحب كاراكر التحقق من صحة النشرات الموجودة في وسائل التواصل الاجتماعي لديه، ويقول إن الشكوك حول كلينتون التي أدت به إلى التصويت لمصلحة ترمب لم تكن مدفوعة بتصديق كل نظرية مؤامرة يمينية حولها وجدها عبر فيسبوك. ومع ذلك يبدو أن بعضها عالقة في ذهنه. "هل كان هناك 45 شخصا شاركت معهم أو وقفت ضدهم عن كثب في السياسة لقوا حتفهم بصورة غامضة؟ هل أؤمن بذلك؟ لا، ولكن ماذا لو كان العدد هو شخصين فقط وليس 45 شخصا، هل هذا أمر لا بأس به؟ هل ترى وجهة نظري؟ أنت تصدق فقط نسبة معينة مما تسمعه".

تغريدات «تويتر»

يجفل كاراكر من استخدام ترمب الطليق لتويتر، ومن رأيه أن الرئيس استجلب على نفسه بعض التغطية الإعلامية السيئة، لكنه يشكو من أن الصحافة لا "تعطي الرجل فرصة". عبر زبائنه عن موافقتهم في الوقت الذي يعرض فيه كاراكر وجهة نظره الأوسع: وسائل الإعلام "تريد التركيز (...) على الأشياء السيئة" مثل الأحداث العنيفة التي تورط فيها العنصريون البيض هذا الصيف في شارلوتسفيل، فيرجينيا. ويقول: "إنه أمر ليس بالجيد لبلادنا. للأسف يبدو أن الأشياء اللافتة للنظر هي التي تحصل على التغطية. الحياة العادية اليومية التي هي الجانب الجيد في هذا البلد، لا أحد يقول أي شيء عن ذلك".
لا أحد، ربما باستثناء جو إميل، مدير العمليات الإعلامية في صحيفة "بولينج جرين ديلي نيوز". إنه يراقب المطبعة العتيقة للصحيفة التي يبلغ عمرها 163 عاما وبيده جهاز راديو لالتقاط موجة الشرطة، وشهية أحد أعمدة المجتمع المحلي لاجتماعات مجلس المدرسة، ونتائج الفرق الرياضية الصغيرة. يقول لنا: "أنتم يا رفاق تغطون ما هو جيد وما هو رديء. لكننا نحن الذين نجلس ونغطي الأمور التي تحدث من يوم لآخر". لم يبق لدى صحيفة "ديلي نيوز" المملوكة لإحدى العائلات سوى 21 شخصا في غرفة الأخبار، وهو ربع عدد من كانوا فيها عام 2009، ويضيف إميل: "لو اختفت الصحيفة الناس لن يعرفوا أبدا أنهم زادوا الضرائب عليهم". لكن حتى في بولينج جرين العناوين الرئيسية التي تتحدث عن الجنس والمخدرات يقرأها الناس على الإنترنت أكثر من قراءتهم للمواضيع التي تتحدث عن الضرائب.
إميل (52 عاما) هو من مشاهير المدينة. عن طريق التغريد بشذرات من الأخبار من جهاز الراديو، استطاع تجميع 46 ألف متابع - ما يقارب ثلاثة أضعاف توزيع صحيفته المطبوعة. وهو يسمع بالتأكيد اتهامات التحيز في بعض الأحيان، في الأغلب عندما يخلط القراء على الإنترنت بين افتتاحيات الصحف وبين التقارير "التي تتبع القواعد دون تحيز"، كما يقول، لكنه حريص على عدم السماح لآرائه السياسية أن تظهر في صفحات الأخبار أو في تغريداته. يقول: "حتى الصحافيين في هذا اليوم والعصر فقدوا عقلهم على وسائل الإعلام الاجتماعية".
وكانت الصفحة الافتتاحية المحافظة للصحيفة واحدة من الصفحات القليلة التي تؤيد ترمب، لكن موقفها الإخباري تلخصه صورة على مكتب إميل للمحقق، جو فرايدي، في مسلسل "دراجنيت"، مختومة بعبارة شهيرة منسوبة بالخطأ إلى المحقق بطل المسلسل التلفزيوني الذي كان يعرض في الخمسينيات، وهي: "الحقائق فقط، يا رجل".
لكن سام فورد، وهو باحث في معهد ماساتشيوستس للتكنولوجيا، نشأ خارج بولينج جرين، ودرس نظامها البيئي الإخباري هذا الصيف من أجل تقرير ـ لجامعة كولومبيا ـ عن كيفية معالجة الاستقطاب الإعلامي، يقول إن هناك نوعين من العقبات مع مثالية شعار "الحقائق فقط" الذي يتبناه كل من كاراكر وإميل.
أولا، "الكثير من صحافة ’الحقائق فقط، يا رجل‘ تكتب بطريقة غير مفهومة"، الأمر الذي يدفع القراء إلى وسائل إعلام ذات لغة جافة أقل، وأكثر استقطابا. ثانيا، بصرف النظر عما يقول الناس إنهم يريدونه "ما الذي يحصل على معظم حركة القراء؟ حمامات الدم والخلافات الحزبية".
حصل فورد على أول وظيفة له في صحيفة في عمر 12 عاما، عندما تولى عمود المجتمع الذي كان لجدته. قبل أن يظهر فيسبوك وفقاعات فلترته، ظهر عمود المجتمع في الصحف عبر مقاطعة أوهايو، حيث كان يتتبع أخبار المواليد والزواج والتجمعات التي جعلت المجتمع يشعر بالاتصال.
الآن، كما يقول: "معظم الصحافيين من مكان آخر". وفي الوقت الذي عملت فيه متاجر "كريجزلست" و"وول مارت" على إفراغ نماذج أعمال الأخبار المحلية من مضمونها، وظائف الصحافة المتبقية في أمريكا أصبحت تتركز في المدن الساحلية الكبيرة، الناجحة اقتصاديا والليبرالية. إذا كنت لا تلتقي بمراسل إلا عندما يهبط عليك من واشنطن أو نيويورك لتغطية الانتخابات، أو الكوارث الطبيعية، أو إحدى المجازر (حقيقية أو مزيفة) "فإن ذلك يغير الطريقة التي ينظر بها المجتمع المحلي إلى الصحافة".

عامل ترمب

في الوقت الذي أقود فيه سيارتي في جميع أنحاء كنتاكي، أنا مدرك لذلك النوع من الصحافة الذي يسخر منه بسهولة على أنه "رحلات سفاري إلى بلد ترمب"، الذي نشأ بعد الانتخابات. على حد تعبير مجلة "أتلانتك": "مجموعة بعد مجموعة من النخب المرتبكة عبرت أمريكا للبحث والتحفيز ومحاولة معرفة ما فاتها". أنا أيضا أدرك أنني لست مراقبا محايدا. أثناء وجودي في ولاية كنتاكي أسأل لماذا أصبح رأي الناس سلبيا بشأن الصحافيين، أتلقى رسالة بالبريد الإلكتروني من مشترك في "فاينانشيال تايمز" من ديكالب، إلينوي. ريتشارد رايان، الذي يصف نفسه بأنه محافظ في مجال المالية العامة، كتب: "تعبت من كل الصحافة السلبية حول إدارة ترمب (...) أنا لست من المعجبين بترمب، لكن في الحقيقة، هل نحن بحاجة إلى ’المزيد‘ من هذا العزف المستمر؟". قررت أن أحادثه عبر الهاتف.
لا يعتقد رايان أننا نختلق المواضيع الإخبارية، لكنه يرى أن الصحافة تمضي الكثير من الوقت على التكهن بالدوافع المحتملة للرئيس وإيجاد الخلل فيها. ويتساءل: "ألم يفعل أي شيء صحيح على الإطلاق؟". عبر وسائل الإعلام "أجد فقط التقارير التي تفترض أننا جميعا نكره ترمب (...) الصحافة كلها تتحدث عن المواضيع نفسها في حفلات الكوكتيل".
لا توجد كوكتيلات في القائمة في مقهى OC في بيفر دام، في مقاطعة أوهايو. قطعنا المسافة التي استغرقت 45 دقيقة بالسيارة من بولينج جرين للجلوس مع الصحافيين المحليين وتناول الشاي المثلج الحلو بشكل رائع. في العام الماضي أصبح سيث ديوكس (26 عاما) رئيسا لتحرير صحيفة محلية تفتقر إلى النقود، مع أن لديه ثلاثة أشهر من الخبرة الصحافية فقط. الأخوان داستن ولي براتشر، ابنان لأحد عمال المناجم في كنتاكي، أسسا في عام 2012 موقعا إخباريا على الإنترنت أطلقا عليه اسم "أوهايو كونتي مونيتر".
في السياسة كما هي الحال في وسائل الإعلام، يقول لي براتشر: "هناك الكثير من هؤلاء الناس، ليس هناك حقا أي شخص يتحدث إليهم". عندما جاء ترمب واعترف بالناخبين في المناطق الريفية كان الأمر "تقريبا مثل تجربة دينية". يوسع "لي" تشبيهه ليبين السبب في أن من غير المرجح لأقوى مؤيدي ترمب أن يتأثروا بالتقارير الانتقادية عن رجلهم. "الكثير من الناس أصبحوا مقتنعين بترمب، وعندما تكون مقتنعا بشخص ما إلى هذه الدرجة، سيكون هناك دليل لا يقبل الجدل على أنه فعل ما يقولون إنه فعله".
الأخوان براتشر، اللذان يسجلان محاضر اجتماعات البلدة التي يغطيانها حتى يتمكن أي من المتشككين من سماع ما حدث بنفسه، يشككان في أن أخبار السبق الصحافية من واشنطن التي تعتمد على مصادر لا تكشف عن اسمها. يقول لي: "هذا يجعلنا نقول، من هم هؤلاء الناس؟ يمكنك أن تقول إنهم في البيت الأبيض، لكن هل هو مثلا عامل النظافة الذي تصادف أنه كان يسير في الممر؟". (أنا أشك في ذلك بصدق، ولكن هذا هو ما يغلب على ظن الناس على نطاق واسع).
يظهر على الأخوين براتشر أنهما متشائمان إزاء إمكانية أن تزول الخلافات في الخطاب الوطني في أي وقت قريب. يقول لي: "الناس متمسكون بما يفعلون. وإذا قلت شيئا لا يعجبهم، عندها (يقولون) ’لن أستمع لك بعد الآن. لا أريدك في حياتي‘".
ويليس، مضيف محطة الإذاعة العامة في بولينج جرين، يروي قصة مماثلة: لاحظ أن محطته كانت تحصل على عدد أقل من الشكاوى المتعلقة بالتحيز للفكر الليبرالي. "لا أعتقد أن السبب في ذلك هو أن الأفراد الذين يتقدمون بالشكاوى غيروا رأيهم. أعتقد أنهم ببساطة اتجهوا نحو محطة أخرى".

تغطية متباينة

هذا التجمع المتمثل في مناطق المحتوى المريحة له عواقبه. مثلا، في الوقت الذي فيه زخم التحقيق الذي يجريه روبرت مولر في التدخل الروسي في انتخابات عام 2016، يسمع مشاهدو قناة فوكس مواضيع حول هذه القضية تختلف تماما عن الأخبار التي تبثها قناة "إم إس إن بي سي". وثقة الشعب الأمريكي فيما سيحصل لاحقا ربما تعتمد على الرواية التي يصدقونها.
يشير ويليس إلى أن ترمب لم يخترع فكرة أن الصحافيين من "التيار الرئيسي" هم "غيلان النخبة اليساريين الذين يكرهون أمريكا"، لكنه أعاد تسمية ذلك بشكل بارع ليصبح عصر "الأخبار المزيفة". ويقول إن ذلك وضع الرئيس في موقع عجيب: بعد صدور أي تقرير لا يعجبه، كل ما عليه فعله هو أن يقول بكل بساطة: "هذه أخبار مزيفة، هذه محاولة أخرى من وسائل الإعلام لتمزيق هذه الإدارة، وأعتقد أنه بالنسبة للكثير من الأنصار هذه هي خلاصة الموضوع".
يقع استوديو ويليس في حرم جامعة ويسترن كنتاكي، حيث يتلقى جيل جديد رسائل مادة "مبادئ الصحافة" المتعلقة بالأخلاقيات، والشفافية، والحصول على جميع جوانب الموضوع في صفوف دراسية حيث لا يكون الطلاب بعيدين أبدا عن نسخة من التعديل الأول للدستور. تيم برويكيما، أستاذ التصوير الصحافي، يدعوني للتحدث مع طلابه الذين يدركون جيدا الانفصال ما بين مثاليتهم والسخرية التي ينظر من خلالها الكثير من الأمريكيين إلى المهنة التي اختاروها. تقول ريمي مايس، التي تدرس التصوير الصحافي واللغة العربية بحيث يمكنها سرد قصص النساء في البلدان الناطقة باللغة العربية: "أنا أحاول مساعدة الناس وهم يتهمونني بأنني أكذب عليهم، لكنني لست كذلك".
تشاك كلارك، مدير منشورات الطلبة في المحطة الإذاعيةWKU، يحتفظ على مكتبه باستشهاد (ضمن إطار) من إحدى القصص القصيرة للروائية فلانري أوكونور ليذكر تلاميذه من الصحافيين الشباب في الجامعة بأن "الحقيقة لا تتغير بسبب قدرتنا على استيعابها". من رأي كلارك أن الرئيس "يجعل مهمته هي تدمير ثقة الشعب الأمريكي بالصحافة"، لكن هذا عمل فقط على تحفيز طلبته. وهو يرجو أن يكونوا هم الأفراد الذين يحققون الفوز في معركة نيل الثقة في مهنة الصحافة. "إن خسرنا الصحافة، سنخسر الديمقراطية. هكذا بكل بساطة".
ربما يحتاج الأمر إلى جيل لحل مشكلة الريبة التي طال أمدها في أمريكا والمتعلقة بوسائل الإعلام التي تنقل الأخبار، لكنني تعلمت بعض الدروس الصحافية بنفسي في كنتاكي. فقد اكتشفت أن زبائن حانة كاراكر يجدون أن التدقيق في صحة ما تقدمه وسائل التواصل الاجتماعي من أخبار هو أمر مجهد وشاق بقدر ما أجده أنا، وأن الإجهاد من الأخبار يتسبب في إبعاد الجمهور، وأنه حتى المعنيين بالفقاعات الحزبية يشعرون بالقلق من أن استقطاب الأخبار يعمل على إثارة التوتر في علاقاتهم مع أسرهم وأصدقائهم ومجتمعهم. وكما لاحظ أندريه وينزل، المؤلف المشارك في دراسة جامعة كولومبيا التي أجراها فورد: "بغض النظر عن الجهة التي يأتي منها الناس، لم يكن أحد راضيا عن الوضع الراهن".
وتم تذكيري أيضا بأن الصحافيين يقعون في أيدي النقاد عندما نرتكب أخطاء نتيجة الإهمال، وهم مشغولون إلى حد كبير جدا بالأخبار المثيرة ويتجاهلون الفصل بين الآراء الشخصية والأخبار. وسمعت أفكارا بناءة أيضا. يمكن لهذه الصناعة أن تكون أكثر شفافية بشأن صناعة الأخبار، يمكننا الاندماج بشكل مباشر أكثر مع قرائنا، شخصيا وعبر الإنترنت، ويمكننا قضاء المزيد من الوقت بعيدا عن مكاتبنا الموجودة في المدن الكبيرة، والتشارك مع غرف الأخبار المحلية في المواضيع التي تنشر.
يمكننا إفساح المجال أمام "صحافة الحلول"، التي، كما يقول فورد "لا تتعلق بالموازنة بين الأخبار السيئة والصور"، بل تسليط الضوء على الاستجابات البناءة للتحديات التي تثير أشد القلق لدى جماهيرنا. بل نستطيع حتى أن نأخذ درسا من أسلوب ترمب من خلال التحدث بشكل أقل مثل السياسيين والإقرار بوجود مجتمعات مثل بولينج جرين. الأهم من ذلك كله، ربما، أنه يمكننا البدء في الاعتراف بأن لدينا مشكلة ثقة متعمقة لن تزول من تلقاء نفسها.
كما أن قضاء أسبوع في كنتاكي ذكرني أيضا بأمور لم تتغير: قوة إقرار الوقائع المنسوبة بكل وضوح في موضوع مهم، ومتعة سرد المواضيع المعدة بشكل جيد. السنة التي انطلقت فيها رواية الأخبار المزيفة شهدت أيضا بعض الأعمال الصحافية المميزة. نمو الاشتراكات في مؤسسات راوحت من "واشنطن بوست" إلى "ذي نيويوركر" يشير إلى أن الصحافة عالية الجودة تجزى بشكل جيد على ذلك. حتى أن استطلاعات الرأي التي أجرتها "إبسوس / جالوب ورويترز" وجدت أن عدد الأمريكيين الذين يعبرون عن ثقتهم بالصحافة ارتفع قليلا في الأشهر الأخيرة.

طاولة الكذابين

توقفت مرة أخرى وأنا في طريقي إلى ناشفيل لأتمكن من العودة جوا إلى نيويورك. محل البقالة "جولد سيتي" محاط بالحقول. في محطة البنزين في الخارج كان يوجد جرار تجري تعبئته بالوقود تحت لافتة تحوي إعلانا لعلامة تجارية لأحد أنواع الكولا التي لم تتسبب بأية مشاكل لشركة كوكا كولا، أو بيبسي منذ عقود. في الداخل يوجد ما يعرف باسم طاولة الكاذبين، حيث يناقش زبائن المحل قضايا اليوم. الجدران مزينة برؤوس غزلان، وأدعية للرب، وللجيش، وللتعديل الثاني للدستور، وصورة لبندقية يدوية مع تحذير للأوغاد المحتملين: "نحن لا نتصل بالطوارئ".
جيمس نيل، مالك المحل الذي يرتدي زي الدنغري، يقول إنه يفضل الحصول على الأخبار من زبائن محله أكثر من الصحافيين الذين يصفهم "بالتحيز الشديد" ضد أشخاص يحملون أفكاره نفسها. (ويشتكي قائلا: "إن قال الرجل الأبيض أي كلمة خارجة عن الإطار المألوف يعتبر عنصريا"). لم أكن قد أطرت تساؤلي المتعلق بالثقة بالأخبار على أنه سؤال حول ترمب، لكن مثل معظم الناس الذين قابلتهم في كنتاكي، يعود نيل فورا إلى سوء فهم وسائل الإعلام لناخبي هذا الرئيس. ويصر على "انتخاب ترمب تم من خلال عدد أصوات الناخبين"، قبل أن أتمكن من الحديث عن خطأ ذلك بذكر المجمع الانتخابي، "لكن الآن كل ما نسمعه هو كل تلك الاحتجاجات. الموضوع الذي فيه الفائدة للمجتمع لا يتولون تغطيته، فقط الموضوع الذي يسبب الأذى لبعض الناس، هذا ما يريدونه".
يخشى الصحافيون ترمب لأن "لديه الجرأة للوقوف والدفاع عن حريتنا"، بحسب ما يجادل نيل، مضيفا أنه يحترم الرئيس لأنه "يتجنب اللف والدوران. فهو يتحدث عن الموضوع مباشرة ودون مواربة". ويقول إن تحيزات الصحافيين جعلتهم غير قادرين على رؤية فرصة فوز ترمب وانتصاره في العام الماضي، والآن يغيرون كلمات الرئيس للتأكيد على وجود انقسام.
يقول نيل: "عندما أشاهد الأخبار، أجد أن الرئيس لم يقله بهذه الطريقة. دبلجوه بالطريقة التي يرغبون فيها. لذلك يكون مختلفا تماما عن الكلام الذي قاله فعليا". ويهتف الزبائن بصوت واحد بالموافقة على ذلك.
عليه أسأل ما الذي يستطيع الصحافيون فعله لاستعادة ثقة نيل؟ يرد ردا قاطعا: "لا شيء"، ثم يتوقف للحظة قبل أن يضيف من باب التأكيد: "لا شيء على الإطلاق".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES