السياسية

الساسة الوسطيون ومواجهة أوهام الشعبوية

الساسة الوسطيون ومواجهة أوهام الشعبوية

في مؤتمر حضره أخيرا، داني رودريك أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة هارفارد، وعديد من المختصين يحكي دوريك عن جلوسه بجانب خبير أمريكي بارز في عالَم السياسة التجارية. وعن حديثهما حول اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية "نافتا"، التي اتهمها الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بالتسبب في المحنة التي يعيشها العمال الأمريكيون ويحاول إعادة التفاوض عليها. متناولا رودريك في هذا المقال أكثر ما فاجأه في هذا الحوار إذ قال له الخبير الاقتصادي: "لم أفكر قَط في اتفاقية نافتا باعتبارها مشكلة كبيرة".
أما مرد الدهشة فهي أن الخبير كان واحدا من أبرز المدافعين عن اتفاقية نافتا وأعلاهم صوتا عندما أُبرِم الاتفاق قبل ربع قرن من الزمن. وقد لعب هو وغيره من خبراء الاقتصاد دورا كبيرا في الترويج للاتفاقية بين عامة الناس في أمريكا. بيد أنه قال موضحا: "لقد دعمت نافتا لأنني كنت أعتقد أنها ستمهد الطريق لمزيد من الاتفاقيات التجارية".
بعد بضعة أسابيع، من هذه القصة، يكتب رودريك عن حضوره مأدبة عشاء في أوروبا، حيث كان المتحدث وزير مالية إحدى دول منطقة اليورو، وكان الموضوع يدور حول صعود الشعبوية. كان الوزير السابق قد اعتزل السياسة وكانت كلماته قاسية في وصف الأخطاء التي يعتقد أن النخبة السياسية الأوروبية ارتكبتها.
قال المتحدث: "نحن نتهم الشعبويين ببذل وعود لا يمكنهم الوفاء بها، ولكن ينبغي لنا أن نوجه هذا الانتقاد إلى أنفسنا". يقول رودريك "في وقت سابق أثناء العشاء، كنت أناقش، ، ما أصفه بالمعضلة الثلاثية، التي وفقا لها يُصبِح من المستحيل أن تحظى أي دولة بالسيادة الوطنية، والديمقراطية، والعولمة المفرطة في ذات الوقت. بل يتعين عليها أن تختار اثنين من الثلاثة. وقد تحدث السياسي السابق بحماس شديد: "إن الشعبويين صادقون على الأقل، فهم واضحون بشأن الاختيار الذي يتخذونه؛ إنهم يريدون دولة قومية، وليس العولمة المفرطة أو السوق الأوروبية الموحدة. ولكننا أوهمنا شعوبنا بأنها قادرة على الحصول على العناصر الثلاثة في وقت واحد. لقد بذلنا وعودا لم يكن بوسعنا تحقيقها".
لن نعرف أبدا ما إذا كان توخي قدر أكبر من الصِدق والإخلاص من جانب التيار الرئيس من الساسة والتكنوقراط يوفر علينا صعود زعماء الدهماء المناهضين للمهاجرين من أمثال ترمب، أو مارين لوبان في فرنسا. الأمر الواضح هو أن الافتقار إلى الصراحة في الماضي لم يكن بلا ثمن. فقد كَلَّف الحركات السياسية في الوسط مصداقيتها. كما زاد من الصعوبة التي تواجهها النُخَب في محاولة تضييق الفجوة التي تفصلها عن الناس العاديين الذي يشعرون بأن المؤسسة الرسمية تخلت عنهم وهجرتهم.
يتحير كثيرون من المنتمين إلى النخب في محاولة تفسير الأسباب التي تجعل الناس من الفقراء أو أبناء الطبقة العاملة يدلون بأصواتهم لصالح شخص مثل ترمب. فمن الواضح أن سياسات هيلاري كلينتون الاقتصادية المعلنة كانت لتثبت في الأرجح كونها أكثر ملاءمة لهم. ولكنهم، في محاولة تفسير هذه المفارقة، يستشهدون بجهل هؤلاء الناخبين، أو افتقارهم إلى المنطق والعقلانية، أو عنصريتهم.
ولكن هناك تفسيرا آخر، وهو تفسير يتسق تماما مع العقلانية والمصلحة الذاتية. فعندما يخسر ساسة التيار الرئيس مصداقيتهم، يُصبِح من الطبيعي أن يرتاب الناخبون في الوعود التي يبذلونها. يميل الناخبون إلى الانجذاب إلى المرشحين المعروف عنهم معاداة المؤسسة الرسمية والذين يمكنهم أن يتوقعوا منهم بنسبة كبيرة أن يخرجوا على السياسات السائدة.
في لغة الاقتصاديين، يواجه الساسة الوسطيون مشكلة المعلومات غير المتماثلة. فهم يدَّعون أنهم مصلحون، ولكن لماذا يصدق الناخبون قادة لا يبدو أنهم مختلفون عن زمرة الساسة السابقين الذين بالغوا في تصوير مكاسب العولمة واستخفوا بشكاواهم وهمومهم.
في حالة هيلاري كلينتون، تسبب ارتباطها الوثيق بالتيار المناصر للعولمة في الحزب الديمقراطي وعلاقاتها المتينة مع القطاع المالي في تعقيد المشكلة بوضوح. وقد وعدت حملتها الانتخابية باتفاقيات تجارية عادلة وتنصلت من دعم الشراكة عبر المحيط الهادئ، ولكن هل كانت مخلصة في ذلك حقا؟ الواقع أنها أيدت الشراكة عبر المحيط الهادئ بقوة عندما كانت وزيرة للخارجية الأمريكية.
وهذا هو ما يسميه الاقتصاديون التوازن التجميعي. ويبدو الساسة التقليديون والإصلاحيون متشابهين، وهم يستحثون بالتالي الاستجابة نفسها من جانب قسم كبير من الناخبين. فهم يخسرون الأصوات لصالح الشعبويين وزعماء الدهماء الذين يعتبر الناخبون وعودهم بزعزعة أركان النظام أكثر مصداقية. كما يشير تأطير التحدي في هيئة مشكلة معلومات غير متماثلة إلى حل واضح. فمن الممكن تعطيل التوازن التجميعي إذا تمكن الساسة الإصلاحيون من "إظهار" نوعهم "الحقيقي" للناخبين.
ويحمل التلميح بالإشارة معنى محددا في هذا السياق. فهو يعني الانخراط في سلوك مكلف يتسم بالقدر الكافي من التطرف الذي يجعل أي سياسي تقليدي غير راغب في محاكاته على الإطلاق، ولكنه ليس متطرفا إلى الحد الذي قد يحول الإصلاحي إلى شعبوي فيهزم الغرض منه. وبالنسبة لشخصية مثل هيلاري كلينتون، على افتراض أن تحولها كان حقيقيا، فربما كان ذلك يعني الإعلان عن أنها لم تعد تأخذ أي موال من وول ستريت أو أنها لن توقع على أي اتفاقية تجارية أخرى في حال انتخابها.
بعبارة أخرى، يتعين على الساسة الوسطيين الذين يرغبون في سرقة بريق زعماء الدهماء أن يمروا عبر مسار ضيق للغاية. وإذا كان شق مثل هذا المسار يبدو صعبا، فإن هذا يدل على حجم التحدي الذي يواجه هؤلاء الساسة. ومن المرجح أن يتطلب التصدي لهذا التحدي وجوها جديدة وساسة أكثر شبابا لم يتلوثوا بوجهات نظر سابقيهم المتأثرة بالعولمة وأصولية السوق.
يتطلب الأمر أيضا الإقرار الصريح بأن السعي إلى تحقيق المصلحة الوطنية هو ما يُنتَخَب الساسة للقيام به. وهذا يعني ضمنا الاستعداد للهجوم على عديد من معتقدات المؤسسة الرسمية المقدسة ــ وخاصة المؤسسات المالية المطلقة العنان، والتحيز لصالح سياسات التقشف، والنظرة المستهجنة للدور الذي تلعبه الحكومة في الاقتصاد، وحركة رأس المال المتحررة من العراقيل في مختلف أنحاء العالَم، والخضوع للتجارة الدولية.
سيظل خطاب هؤلاء القادة يحمل طابعا متنافرا متطرفا في نظر المنتمين إلى التيار الرئيس. ومع ذلك، ربما يكون هذا أقل ما يلزم القيام به لاجتذاب الناخبين بعيدا عن زعماء الدهماء الشعبويين. ويتعين على هؤلاء الساسة أن يقدموا مفهوما للهوية الوطنية أكثر شمولية، وليس معاديا للمهاجرين، كما يجب أن تظل سياساتهم ضمن إطار المعايير الديمقراطية الليبرالية. أما أي شيء آخر فينبغي أن يكون مطروحا على الطاولة.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من السياسية