ثقافة وفنون

قوة الاقتصاد قوة للغة .. وليس العكس

قوة الاقتصاد قوة للغة .. وليس العكس

تشبه الكلمات العملات النقدية، حيث لا تحمل قيمتها الفعلية في جانبها المحسوس إنما لقيمتها الضمنية، إذ تمثل كل كلمة في اللغة علامة لها جانب حسي يظهر في اللفظ المكتوب أو المنطوق، وجانب معنوي وهو دلالة الكلمة. والمجموع الناتج بين اللفظ والمعنى يتمثل في الكلمات التي نتداولها ونتواصل بها. والعملة النقدية لها جانبان الأول منهما حسي في الورقة النقدية أو العملة والتي لا تحمل قيمتها في ذاتها إنما من القيمة العينية التي ترتبط بها أو اعتمادا على ثقة المتداولين لها بالجهة المصدِّرة. فالعملات النقدية أداة اجتماعية تمثل جزءاً مهما من النشاط الاقتصادي، والنشاط الاقتصادي بطبيعته نشاط اجتماعي، والعملة النقدية تكتسب قيمتها بقبول أفراد المجتمع لها، مثلها مثل الكلمات التي لا تكتسب قيمتها إلا بارتباطها بدلالة ومعان تتمثل في أذهان المتكلمين والسامعين الذين يتواضعون على قبولها بهذه الدلالة واستعمالها. إن القبول للعملات النقدية أو الكلمات يتحقق من خلال عملية تاريخية طويلة يرسّخها العرف الاجتماعي الذي تفسّر في ضوئه الدلالات اللغوية في الكلمات والقيمة النقدية للعملات. ومن هنا نستطيع أن نرى سبب ارتباط الاستقلال السياسي دائما بعملة نقدية ولغة وطنية.

فقر اقتصادي

إن القول إن اللغة تعدّ رصيدا نقديا يمتلكه الإنسان، ويكتسب قيمته من خلال تداوله واستخدامه، مثله مثل العملة النقدية أو السلع الاستهلاكية، لا يعني أن تعدد اللغات أمر مرتبط بالثراء الاجتماعي على حد قول عالم اللغة الألماني "فلوريان كولماس" بل إن التعدد اللغوي مرتبط دائما ارتباطا عكسيا بالثراء الاجتماعي. والمجتمعات المفتتة لغويا هي على الأغلب مجتمعات فقيرة، والبلدان أحادية اللغة هي في الغالب بلدان تعيش في رخاء وتطور اقتصادي وصناعي. وهنا نسأل: ما العوامل الكامنة وراء الارتباط بين التعدد اللغوي والفقر الاقتصادي؟. يشكل الاقتصاد النقدي واللغة المشتركة نقلة نوعية في المجتمع حيث ينشئ كل منهما نقلة نوعية في التطور الاجتماعي ويفتحان إمكانات جديدة للمشاركة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية. وبذلك يكون تجانس اللغة وتطورها المتحرر من العوائق شرطين مهمين لتجارة حرة واسعة النطاق تتسق مع الرأسمالية الحديثة.

اللغات الأقوى

يرتبط الإنتاج الصناعي بالإنتاج اللغوي، والدول المتقدمة في الإنتاج الصناعي متقدمة في الإنتاج اللغوي بصورة تلقائية، ونحن هنا لا نتكلم عن الإنتاج اللغوي الفني أو الأدبي وإن كان لا يقل أهمية عن الإنتاج اللغوي المرتبط بإنتاج السلع الاستهلاكية حيث تتطور اللغة من خلال استخدامها لتحقيق حاجات التواصل اليومي. والاتصال احتياج وجودي وضرورة اقتصادية. وفي سوق اللغة البيع دائما أفضل من الشراء. لأن البائع ينتج البضاعة وينتج معها اسمها وطريقة استخدامها بلغته التي يتحدث بها، وبالتالي تكون لغة الدول الصناعية هي لغة سوق العمل، وتقل قدرة المرء على المنافسة في سوق العمل إذا كان يعاني قصورا في معرفة لغة هذه السوق، وامتلاك أدوات لغوية كافية من هذه اللغة تعود عليه بالمنفعة وتسهل له الانخراط في سوق العمل. على سبيل المثال؛ تُطلب اللغة العربية في سوق العمل على نطاق محدود، لأن متطلبات السوق العالمية ومتطلبات التقنيات الحديثة تستوجب إتقان اللغة الإنجليزية. في المقابل رجل الأعمال الأمريكي لا يحاول أن يتعلم اللغة العربية لكي يتعامل مع رجال الأعمال في السوق العربية. بينما يحدث العكس للعربي الذي يحاول أن يتمكن بقدر كاف من اللغة الإنجليزية. إنها قوة الاقتصاد التي تفرض قوة اللغة، إضافة إلى ذلك فرص تحقيق الإمكان الوظيفي للعربي الذي يتقن اللغة الإنجليزية في البلدان العربية أكبر بكثير من فرصة توظيف العربي الذي لا يتقن إلا العربية في السوق الأمريكية. وذلك يفسر لنا قول الشاعر: أرى لرجال الغرب عزا ومنعة***وكم عز أقوام بعزِّ الصناعاتِ.
اللغات الأقوى في العالم هي لغات العواصم المالية في العالم: هناك عوامل أساسية تجعل بعض اللغات أفضل من غيرها، من أهم هذه العوامل: الاتساع الجغرافي، واستخدام اللغة في الاقتصاد العالمي، وأن تكون هي لغة المعرفة والإعلام: حيث تسهل على المتحدث بها الوصول إلى أحدث أخبار العالم المهمة وفهم الإنتاج المعرفي الحديث. وإذا كانت اللغة ضمن اللغات المستخدمة في العلاقات الدولية الدبلوماسية: فتمنح المتحدث بها القدرة على الانخراط في العلاقات الدولية.
مكانة اللغة العربية

بين القوى الاقتصادية تحتل اللغة العربية المرتبة الرابعة من بين لغات العالم، وفقا لعدد الناطقين بها، فيما تتقدمها اللغة الإنجليزية في المرتبة الثالثة والإسبانية في المرتبة الثانية، وتحتل اللغة الصينية المرتبة الأولى حسب الإحصائيات التي نشرتها Ethnologue-2017. لكن ترتيب اللغة وفق عدد الناطقين بها فقط بين لغات العالم لا يمثل إلا جانبا وحيدا من جوانب قوة اللغة، وقوة اللغة تأتي من قوة الشعوب التي تتحدث بها اقتصاديا وسياسيا ومعرفيا. والتنافس بين اللغات هو تنافس اقتصادي، والذين يتقنون اللغة الإنجليزية في المجتمعات العربية مثلا يشعرون بذلك الإحساس الخفي بالقوة التي تمنحهم إياه هذه اللغة في المواقف المختلفة، ليس في مجال التواصل فقط إنما في مجال الاستهلاك المعرفي أيضا. والواقع أنه ليس من قبيل المصادفة أن تكون ستة من المراكز المالية العشرة في العالم هي من مدن ناطقة باللغة الإنجليزية.
إن قوة اللغة الإنجليزية وامتداد استعمالها على النطاق الجغرافي يمثل تهديدا للغات الأخرى الأقل قوة والأصغر امتدادا، حيث تزحف اللغة الإنجليزية مكتسحة اللغات الضعيفة، وصارت تهدد كثيرا من اللغات التي قد توازيها من ناحية الإنتاج المعرفي والأدبي ومنها اللغة الفرنسية، حيث اتخذت فرنسا ضدها قرارات تمنع اعتداء اللغة الإنجليزية على الفرنسية، ما دفع اللغويين الفرنسيين نحو استحداث كلمات فرنسية مقابلة لأسماء المنتجات الأمريكية في السوق الفرنسية. ومع ذلك غالبا ما يعتمد الشعب الفرنسي التعبيرات والأسماء الأمريكية بحماسة أكثر، وفقا "لصحيفة الجارديان البريطانية، جاليكس". ومن الممكن أن تكون المرونة التي تتمتع بها اللغة الإنجليزية هي التي تعطيها ميزة إضافية في عالمنا الرقمي المتغير باستمرار، لأن اللغات الجامدة لا يمكن استعمالها في العالم الرقمي المتجدد، ومن هنا يلجأ الشباب إلى التحول إلى اللغة الإنجليزية في الفضاء الإلكتروني حيث تكون اللغة الإنجليزية طوع ما يريدون في التواصل والتسوق والبحث.

قوة الاقتصاد تقتل اللغات

القوة الاقتصادية والصناعية من الممكن أن تكون سببا في قتل بعض اللغات أو انقراضها، وكثيرا ما تجبر الأنماط الاقتصادية العالمية المجتمعات الصغيرة غير الصناعية على الاندماج في ثقافة مختلفة. وتبين البحوث الجديدة أن النمو الاقتصادي هو المحرك الرئيسي لانقراض اللغة، إذ تشكل القوة الاقتصادية للدول العظمى العامل الأكبر في اختفاء لغات الأقليات الضعيفة اقتصاديا، حيث يضطر الناس إلى تبني اللغة المهيمنة اقتصاديا رغبة في التمتع بالرفاهية الاقتصادية التي يتمتع بها الناطقون بلغات الدول العظمى. ويظهر هنا أن أهم الأسباب التي تقتل اللغات أو تتسبب في موتها هي أسباب سياسية واجتماعية واقتصادية، ولحماية اللغة والحفاظ عليها صحيحة قوية البدن لا بد من معالجة أمراضها السياسية والاقتصادية والمعرفية، ومعالجة مشكلاتها الصحية التي تمنعها أن تكون في كامل لياقتها ومرونتها في تأدية وظائفها التواصلية على أفضل وجه.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون