FINANCIAL TIMES

العجز في الحساب الجاري اكتسب سمعة سيئة لا يستحقها

العجز في الحساب الجاري اكتسب سمعة سيئة لا يستحقها

هناك مبدأ مقبول سائد بين المراقبين من ذوي التفكير السليم في الاقتصاد الكلي الدولي يفيد بأن أوجه العجز في الحساب الجاري والفوائض بين البلدان يمكن أن تكون أمرا خطيرا. ولهذا السبب يغلب عليهم أن يطلقوا على مثل هذه الحسابات الجارية غير الصفرية كلمة "اختلالات" - ما يعني أنه أمر لا يمكن أن يظل كما هو عليه - بدلا من العبارة الحيادية "حالات عدم التناظر".
هم ليسوا على خطأ، على الرغم مما جاء بشكل مطول ـ في عمود "وجبة مجانية" في "فاينانشيال تايمز" ـ عن أن الخطر أحيانا يكون مبالغا فيه. "الفائض المستمر لا يشكل عبئا على النمو، فقط النوع الآخذ في الزيادة. مع ذلك، يمكن أن تتراكم حالات عدم التناظر في الحساب الجاري لتصبح مطالبات ديون غير قابلة للاستدامة مع مرور الوقت، والحل من السياسة الاقتصادية هو توجيه تدفقات رأس المال إلى استثمارات غير قائمة على الديون".
غالبا ما يشعر زميلي مات كلاين بنوع من القلق المتبصر إزاء حالات عدم التناظر في الحساب الجاري الدولي. وآخر منشور له حول الفائض الخارجي لمنطقة اليورو هو مثال جيد على هذا النوع من التحليل. من الجدير بالثناء أنه يؤكد الإشارة إلى أن "حالات الاختلال" يمكن أن تكون أمرا صحيا، من خلال إيراد هذا المثال:
"أوجه العجز في الحساب الجاري ليست أمرا سيئا أصلا، ولا سيما إن كانت لبلدان تستثمر في طاقتها الإنتاجية. مثلا، أنفقت النرويج مبالغ على الواردات أكثر بكثير مما اكتسبته من بقية بلدان العالم عندما حفرت لأول مرة في بحر الشمال. مثل هذا الإنفاق كان على مشاريع جديرة بالاهتمام، لذلك كانت النتيجة مزيدا من الرخاء والازدهار للشعب النرويجي".
حالة النرويج ليست معروفة على نطاق واسع، وهي مفيدة بشكل غير عادي في النقاش الأوسع. تعمق عمود "وجبة مجانية" في الإحصائيات التاريخية للنرويج ليفحص القضية بالتفصيل الذي تستحقه، وتبين أن صافي اقتراض النرويج من الخارج وصل إلى نسب مئوية بأرقام من خانتين من الناتج المحلي الإجمالي في أواخر السبعينيات.
السبب في ذلك هو أن النرويج اكتشفت وجود النفط في جانبها من بحر الشمال في عام 1969، وفي السبعينيات أسرع البلد في تكثيف الإنتاج من خلال استثمارات رأسمالية ضخمة.
لذلك إليكم هذه التجربة الفكرية: ماذا لو كانت سياسة النرويج في الاقتصاد الكلي محكومة على أساس أن العجز "أو الفائض" الذي يكون أعلى من حدود 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي هو "اختلالات" ينبغي تعديلها؟ أو إذا كان يتعين عليها الالتزام بنظام الاتحاد الأوروبي ما بعد الأزمة، المتمثل في مراقبة واحتواء الاختلالات "من حيث المبدأ، إن لم يكن في الممارسة العملية أيضا"؟ ظاهريا، من السهل أن نرى أن الشعور بالقلق إزاء حالات الاختلال في الاقتصاد الكلي يؤدي إلى تضييق الخناق على الاقتراض الخارجي الذي جعل حصول طفرة النفط في النرويج أمرا ممكنا.
قد يرغب بعضهم في القول إن النرويج تمثل حالة خاصة: اكتشفت وجود النفط وكان من الضروري الاستثمار من أجل جني الثروة الهابطة المرتقبة. لكن هذا سيكون خطأ. من الناحية الاقتصادية لا يوجد فرق يذكر بين الحالة المحددة من الاستثمارات الرأسمالية في عمليات استخراج النفط، وبين الاستثمار في أنواع أخرى من النوع الذي يعزز الإنتاجية. هذا هو الأساس المنطقي وراء "الرغبة" في وجود حالات عدم التناظر في الحساب الجاري بين بلدان منطقة اليورو: الهدف الأساسي للعملة الموحدة هو تسهيل تدفقات رأس المال من البلدان الغنية برأس المال وذات الإنتاجية المرتفعة - المعروفة أيضا باسم البلدان الأساسية "مثل ألمانيا وفرنسا" - إلى البلدان الفقيرة في رأس المال وذات الإنتاجية المنخفضة.
لذلك هذا هو الدرس الأول: تماما كما كان من الصحيح والمناسب للنرويج أن يكون لديها عجز ضخم في الحساب الجاري في السبعينيات، سيكون من الطبيعي أن تمتلك منطقة اليورو حالات عدم تناظر لا يستهان بها في الحساب الجاري بين البلدان الأساسية والطرفية "مثل إسبانيا واليونان" إلى أن تلحق البلدان الطرفية إلى حد كبير بالبلدان الأساسية.
الدرس الثاني ينتج عما يلي: ليس المهم حجم التدفقات، إنما كيفية استثمار التمويل. لم تكن المشكلة في اليونان وإيرلندا وإسبانيا هي العجز الكبير في حساباتها الجارية، بل هي أن مجال المناورة الاقتصادية الذي أوجدته هذه العجوزات تم استخدامه لزيادة الاستهلاك أو هدر الاستثمارات "القرارات غير الحصيفة بالاستثمار المكثف في العقارات" بدلا من رأس المال الذي يعزز الإنتاجية بأكبر قدر ممكن، مهما كان معادِل نفط بحر الشمال لهذه البلدان.
كيف يمكن ضمان ذلك؟ من خلال اتباع سياسة أفضل في المجال التنظيمي والاقتصادي، في المقام الأول، لكن أيضا من خلال تفضيل ما يأتي من الخارج من استثمار مباشر ومن تدفقات رأس المال، بدلا من الديون "ولا سيما ديون المصارف". وتحتفظ الحكومات الوطنية بكثير من الأدوات للتأثير في الشكل الذي تتخذه تدفقات رأس المال، مثلا، من خلال التعامل الضريبي مع أنواع مختلفة من الاستثمارات.
الدرس الثالث، هو إذا كانت هذه الأنواع من حالات عدم التناظر في الحساب الجاري طبيعية ومرغوبة، كذلك ستكون آثار نمو الإنتاجية التي تصبح ممكنة بفضلها. وهناك أمر مفهوم بشكل جيد من قبل الاقتصاديين، لكنه لم ينل القدر الكافي من التقدير من قبل صناع السياسة، وهو أن ارتفاع النمو في الإنتاجية في قطاعات التصدير يسير جنبا إلى جنب مع التضخم الأسرع في كل أنحاء الاقتصاد، ولا سيما في القطاعات المحلية غير القابلة للمتاجرة. أحد الآثار المترتبة على ذلك بشكل خاص هو أن "تكاليف وحدة العمل" على مستوى الاقتصاد ككل سترتفع بشكل أسرع مما يحدث في بلدان أخرى، لأنها تقيس بكل بساطة تركيبة تشتمل على مستوى الأسعار المحلية وحصة العاملين من الناتج الاقتصادي. وهي مصدر لكثير من التحليلات المضللة للسياسة الاقتصادية، التي تدعو إلى اعتبار "تكاليف وحدة العمل" على مستوى الاقتصاد ككل مقياسا للإنتاجية، بدلا من التوزيع والتضخم. "على أساس الشركة أو القطاع، هذا المقياس يقيس بالفعل الإنتاجية، وهذا هو مصدر الخلط". لكن معظم النقاش الذي يدور حول "التكيف" في منطقة اليورو يستند إلى هذا الخطأ. في الحقيقة، الاختلاف في ديناميات تكاليف العمل هو منتج ثانوي طبيعي للتقارب الاقتصادي واللحاق بالركب. لذلك إليكم الدرس المتناقض حول "الاختلالات" التي أصابت النرويج في السبعينيات: في منطقة يورو تعمل بكفاءة، يجب علينا أن نلاحظ – ونرحب - بالظواهر التي اعتبرها كثير من المحللين علامات تدل على وجود اختلال وظيفي.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES