FINANCIAL TIMES

«دويتشه بانك» .. محرك «وول ستريت» النشط يدفع ثمن المقامرات الخطرة

«دويتشه بانك» .. محرك «وول ستريت» النشط يدفع ثمن المقامرات الخطرة

«دويتشه بانك» .. محرك «وول ستريت» النشط يدفع ثمن المقامرات الخطرة

«دويتشه بانك» .. محرك «وول ستريت» النشط يدفع ثمن المقامرات الخطرة

«دويتشه بانك» .. محرك «وول ستريت» النشط يدفع ثمن المقامرات الخطرة

«دويتشه بانك» .. محرك «وول ستريت» النشط يدفع ثمن المقامرات الخطرة

كان ذلك في يوم الجمعة الذي أتى قبل عيد الميلاد. كان إدْسون ميتشل، رئيس مصرف الاستثمار التابع لدويتشه بانك الذي يتخذ من لندن مقرا له، يسارع بالعودة إلى الوطن لرؤية أسرته في ولاية ماين في الولايات المتحدة. وبحلول الساعة الخامسة مساء كان قد اقترب من نهاية رحلته إلى المنزل: كانت طائرته الخاصة قد غادرت بورتلاند. بحلول الساعة 5.15 مساء كان على مرأى من وجهته، مطار رينجلي. وبعد دقيقة واحدة، في دوامة من السحب والثلوج، ارتطمت الطائرة في جبل بيفر القريب، ما أسفر عن مقتل ميتشل والطيار.
كان ذلك قبل 17 عاما. ما كان مأساة شخصية لأسرة ميتشل وأصدقائها وزملائها كان أيضا علامة على لحظة من الجيشان للمصرف الذي عمِل على إحداث تغييرات واسعة فيه. بالنسبة لبعض المراقبين، الحادث - وما صاحبه من حزن عميق – كان نذيرا بالمشاكل التي عاناها دويتشه بانك نفسه في الآونة الأخيرة.
كان ميتشل متداولا رائعا ومديرا ملهما ساعد على مدى خمس سنوات على إعادة تشكيل المصرف الألماني الناعس ليتحول إلى محرك نشط في وول ستريت. وباعتباره عاش حياة تميزت بالإثارة والمجازفة وكان يدخن سيجارة تلو أخرى، وكان على استعداد للمقامرة على أي شيء، من لعبة الغولف إلى الذهب، فإنه كان أيضا يجسّد مقامرة دويتشه (التي تنطوي على مخاطر لا يستهان بها) في الأسواق العالمية. في عالم الخدمات المصرفية الاستثمارية الدوَّار مثل عجلة الروليت، كان دويتشه هو الأعلى دورانا من سواه. وعلى مدى فترة طويلة كانت مقامرات المصرف تلقى النجاح.
لكن خلال السنوات القليلة الماضية، وعلى الرغم من ظهوره فائزا واضحا من الأزمة المالية عام 2008، كان يبدو على أكبر مصرف في ألمانيا أنه عالق في دوامة هبوطية. في الخريف الماضي كان إنذار سوق الأسهم حول الوضع المالي للمصرف شديدا بحيث ناقش المستثمرون وحتى المسؤولون الحكوميون إمكانية تقديم خطة إنقاذ.
وكانت هناك مذكرة حديثة عن المصرف من شركة Autonomous Research بعنوان "لم يعد الإصلاح ممكنا". يقول أحد أكبر المساهمين في المصرف: "من الواضح أن شيئا ما يجب أن يتغير. إدارة (دويتشه) لا تفهم الإحساس بالحاجة الملحة".
الرئيس التنفيذي جون كريان – البريطاني جافي الطبع وطيب القلب الذي هو على نقيض من إدسون ميتشل – كان ثابت العزم. قال في مقابلة مع "فاينانشيال تايمز": "سأستمر على الأقل حتى ينتهي عقدي (عام 2020). في الوقت الحاضر تصبح هذه الوظيفة أكثر متعة كل يوم. الأعمال الشاقة انتهت تقريبا".

أسئلة عالقة
لكن لا تزال هناك أسئلة تتعلق بوجود المصرف نفسه. ما الدور الذي ينبغي أن يؤديه دويتشه في المستقبل؟ هل سيتراجع المصرف الرئيس في أكبر اقتصاد في أوروبا إلى جذوره الأكثر تواضعا؟ هل كريان جزء من الحل أم جزء من المشكلة؟
رحلة دويتشه بانك - من مجموعة منخفضة الربحية تركز على العملاء الألمان ومملوكة من قبل مساهمين ألمان، إلى رمز للرأسمالية العالمية في الأيام العنيفة قبل الأزمة المالية - هي نسخة متطرفة لمسار سارت عليه كثير من المصارف حول العالم. وسيحمل مصيره دروسا للمصارف والحكومات والهيئات التنظيمية في الوقت الذي تواصل فيه الصناعة المصرفية تطورها بعد الأزمة.
في عام 1995 كان دويتشه مصرفا محليا وقورا بقيادة هيلمر كوبر، وهو ابن مزارع من بروسيا. مصارف وول ستريت، مثل جيه بي مورجان وجولدمان ساكس وميريل لينش، كانت تتوسع بقوة، بفضل طفرة الأسواق، والنمو السريع للمشتقات المالية، وظهور التداول الإلكتروني. ودفَعَت موجة من تحرير القوانين التنظيمية بهذه المصارف إلى أوروبا بشكل جماعي.
كان دويتشه متخلفا عن الركب، وكان كوبر يفقد صبره حيال طرق المصرف المحافظة. وشعر بالإذلال في أواخر عام 1994 عندما اختارت الحكومة الألمانية جولدمان ساكس، وليس دويتشه، لقيادة العملية العالمية لبيع شركة الاتصالات الألمانية "دويتشه تليكوم" – أكبر عملية خصخصة في أوروبا على الإطلاق. وبحلول الصيف التالي كان قد عيّن ميتشل – مصرفي متهور لكنه رائع من شركة ميريل لينش - للبدء في عملية تحويل دويتشه بانك من مصرف شركات عادي إلى مصرف على غرار مصارف وول ستريت.
لسنوات كانت الاستراتيجية ناجحة مثل الحلم. باع دويتشه بشكل مطرد محفظة بقيمة 24 مليار مارك ألماني من أسهم الشركات، كانت بقايا من دوره في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية دعامة لجهود إعادة الإعمار في ألمانيا الغربية. واستُخدمت حصيلة البيع لإعطاء دَفعة قوية لقسم المصرفية الاستثمارية في المصرف: أولا، من خلال دمج "مورجان جرينفيل"، وهو مصرف متعَب متخصص في القروض التجارية في لندن، تم الاستحواذ عليه في عام 1989. ثم من خلال توظيف موظفين جاؤوا من مصارف منافسه مثل ميريل لينش. وأخيرا من خلال شراء المجموعة الأمريكية المضطربة "بانكرز تراست" في عام 1999.
وأشرف يوسف أكرمان، وهو مصرفي سابق في كريدي سويس، على مصرف دويتشه الاستثماري قبل أن يصبح رئيسا للمجموعة بأكملها في عام 2002 ويقودها إلى العقد المقبل. وهو لا يزال فخورا بإنجازاته: "اغتنمنا فرص النمو وخلال بضع سنوات بنينا واحدا من أكبر ثلاثة مصارف استثمارية عالمية".
في ذروته، في منتصف عام 2007، حمل دويتشه لقب أكبر مصرف في العالم، وبلغ إجمالي أصوله نحو تريليوني يورو. وكان كثير من بيوت التمويل في العالم ينمو بمعدلات لم يسبق لها مثيل، لكن توسع دويتشه كان الأسرع وأكثر قوة. وبحلول حزيران (يونيو) من ذلك العام، كان يزيد موظفيه بمعدل سنوي 20 في المائة، والأصول بنسبة 50 في المائة تقريبا. وارتفع صافي الأرباح 60 في المائة بالمعدل السنوي. مصرف الاستثمار الألماني وضع كل رهاناته على الطاولة.
الأزمة المالية التي أنشبت أظفارها في النصف الثاني من عام 2007 وتسارعت خلال عام 2008 لم تترك أي مصرف عالمي دون مساس. كانت فترة مؤلمة لا يمكن إنكارها لدويتشه، مع خسارة قبل الضرائب بلغت 5.7 مليار يورو في عام 2008. لكن مقارنة ببعض المنافسين كان المصرف الألماني قادرا على التغلب على الأزمة.

الإبحار عكس التيار
ساعدت قيادة أكرمان المحنكة في ذلك، كما فعل بُعد النظر لدى المتداول جريج ليبمان، الذي يراهن بنجاح بالغ ضد القروض العقارية لضعاف الملاءة إلى درجة أنه أصبح بطل كتاب مايكل لويس بعنوان "ذا بيج شورت" (المراهنة الضخمة على المكشوف)، ليلهم شخصية جاريد فينيت، التي أداها الممثل ريان جوسلينج في فيلم ناجح يحمل الاسم نفسه. التنفيذيون الآخرون باعوا ما لديهم من تعاملات في قروض ضعاف الملاءة إلى المنافسين، واشتروا التأمين ضد الإعسار. وكان إنقاذ الحكومة الأمريكية للشركة الدولية الأمريكية للتأمين AIG، إحدى الشركات المقدمة لخدمات التأمين المذكورة، يساوي ما يقدر بأربعة مليارات دولار لدويتشه بانك.
لكن الثقة المفرطة بالنفس، وسلامة الحكم، والحظ يمكن أن تساعد بشكل محدود. ما حيّر كثيرا من الذين أعجبوا بتعامل المصرف مع أزمة عام 2008 هو مدى السوء الذي تبين في السنوات القليلة الماضية. وفي الوقت الذي ازدهر فيه أقرانه، حظوظ دويتشه هوت إلى الحضيض. تراجعت أسعار أسهمه إلى النصف خلال الأعوام الخمسة الماضية، تماما في الوقت الذي ارتفعت فيه قيمة أسهم بعض منافسيه الأمريكيين إلى الضعف.
إريك بن أرتزي، عالم الرياضيات الشاب الطموح الذي انتقل إلى المصرف من جولدمان ساكس في عام 2010، لديه معرفة محدودة بالسبب. يقول: "عندما انضممت إلى دويتشه كنت أظن أنني أنضم إلى فائز، مدعوم بمفهوم ألماني للمنظمات المنضبطة". لكن هذا الانطباع لم يدم. "في غضون أشهر انقشعت الغشاوة عن عيني". وانتهى به الأمر مبلغا عن المخالفات. أبلغ الأجهزة المنظمة عن الطريقة التي كان فيها دويتشه يضع الأسعار ويقيم المخاطر لمحفظة واسعة من مشتقات الأوراق المالية الغامضة - 130 مليار دولار مما يسمى عقود المقايضة من الدرجة الممتازة الفائقة بالرفع المالي.
يتذكر بن أرتزي: "كانوا يقومون ببعض الأشياء الأكاديمية المثيرة للاهتمام من حيث نمذجة المخاطر. لكن كان ذلك بمثابة واجهة. المنهجية التي تم تنفيذها في الواقع جاءت من السراب". في عام 2015 فرضت هذه القضية على دويتشه غرامة مقدارها 55 مليون دولار لقيامه بعملية محاسبية كاذبة.
يقول بن أرتزي الذي يعمل الآن في شركة ناشئة في مجال التكنولوجيا المالية في إسرائيل: "أطلقتُ صافرة الإنذار لأنني أدركت تدريجيا أن هذا المصرف كان شبه قانوني فقط. كان هذا يعود جزئيا إلى الخوف وجزئيا إلى الضمير الأخلاقي. كان هذا أحد أكبر المصارف في العالم ولم أكن أريد أن أكون جزءا منه".
ما اكتشفته "فاينانشيال تايمز" من خلال عشرات المقابلات مع موظفي دويتشه بانك الحاليين والسابقين والمستثمرين والمنافسين هو أن اكتشافات بن أرتزي هي دلالة على حقيقة أوسع حول المشاكل عميقة الجذور في أنظمة المصرف وثقافة الشركة: وهي قضايا يمكن تتبعها إلى البدايات الجريئة للتوسع في الخدمات المصرفية الاستثمارية في دويتشه، أولا تحت إدارة إدسون ميتشل ثم من خلال عصر أكرمان وخليفته أنشو جاين.
حين كان ميتشل يدرس في الجامعة في ماين في السبعينيات، صنع لنفسه اسما لاعب كرة سلة قصير القامة لكنه فعال. عندما اختار مهنة له في الأعمال المصرفية، أخذ نهجه التنافسي في الرياضة إلى قاعة التداول، وارتقى بشكل مطرد في المناصب الوظيفية في ميريل لينش. وبحلول عام 1995 اختاره دويتشه بانك لقيادة عمليات التداول التي كانت لا تزال باهتة في لندن. في ذلك الوقت كان مصرف دويتشه الاستثماري مزيجا من أعمال السندات التي لم تكن ناجحة تماما، إضافة إلى خليط من العمليات الموروثة من "مورجان جرينفيل"، التي انطلقت منها أعمال المصرفية الاستثمارية في دويتشه، التي زرعها سلف كوبر، ألفريد هيرهاوزن.
في عام 1998، تحت ضغط من ميتشل، أطلق دويتشه خطوة جريئة أخرى. يتذكر أحد كبار المديرين: "كانت لدينا نشاطات خارج الموقع، خارج روما، في ذلك العام. وكانت الرسالة من إدسون وحلفائه واضحة: إذا لم تصبحوا أقوى في الولايات المتحدة، سنترك (الشركة)".
وفي غضون أشهر كان دويتشه قد استحوذ على "بانكرز تراست"، الذي خرج حديثا من فضيحة احتيال الشركات: حوّل كبار التنفيذيين في المجموعة الأمريكية أموال العملاء النائمة إلى خزائن المصرف الخاصة. وكان الأعضاء القدامى في مجلس الإدارة يشعرون بالقلق إزاء الانجراف وتأثير الطرق الأنجلو-أمريكية غير الصحية - لكن سادت عولمة المصرفيين الاستثماريين في دويتشه.
كثير من الأشخاص الذين عملوا مع ميتشل أشادوا بقدراته الفنية وطموحه. يقول عضو سابق في مجلس الإدارة: "كان ميتشل موهوبا وجريئا". الأهم من ذلك كله، كان يحمّس الناس. وعندما غادر ميريل ليلتحق بدويتشه، تبعه 50 زميلا له. كان راجيف ميسرا الذي كان يشغل منصب مدير وحدات الائتمان والسلع والأسواق الناشئة في دويتشه، ويرأس الآن صندوق فيجين التابع لـ "سوفت بانك" الذي تبلغ قيمته 100 مليار دولار، واحدا من تلاميذه. "إذا قضيت خمس دقائق مع إدسون فإنك ستخرج متحمسا بشأن بناء مصرف عالمي. كان لديه مثل هذا التفاؤل – كان دائما ينظر نظرة متفائلة".
لكن شهية ميتشل للمخاطر كانت مذهلة. "كانت لديه مواقف الغرب المتوحش"، كما يتذكر أحد كبار التنفيذيين من تلك الحقبة. "كان علينا حقا أن نديره عن كثب. لو أن إدسون عاش وأصبح الرئيس التنفيذي ربما كان دويتشه قد انفجر بطريقة أكثر دراماتيكية في الأزمة".
قضى ميتشل في دويتشه خمس سنوات قصيرة، لكنه خلّف تركة طويلة الأجل. أصبح مصرف دويتشه الاستثماري عدوانيا، وذا طابع أنجلو-أمريكي، ولديه نهم للعلاوات، وعازما على النمو بحيث تم دفع العلاقة مع الجهات التنظيمية إلى أقصى حد، وتمت التضحية بالنزاهة. وكما في المصارف الأخرى في ذلك الوقت، أصبحت السلوكيات الشخصية لبعض التنفيذيين مفرطة على نحو متزايد، إن لم تكن خارج نطاق السيطرة.

سرطان الفساد
كان هناك نمط حياة ميتشل غير التقليدي - عشيقة تعيش معه في فيلا لندن الفخمة، والعائلة في الوطن في ماين. المديرون الآخرون متورطون في عمليات فساد بسيطة لتحقيق مكاسب شخصية، ذلك بحسب ما قاله لـ "فاينانشيال تايمز" اثنان من المصرفيين على دراية بتلك الفترة، بما في ذلك امتلاك شركات مثل الشركة المشغلة لليموزين التي كانوا يعهدون إليها بعقود الخدمة في دويتشه. كان التحيز الجنسي منتشرا – دُعيت حمولة حافلة من بائعات الهوى ذات مرة إلى حفلة عيد الميلاد لتقديم "الخدمة" للموظفين الموجودين في جناح كبار الشخصيات. وكانت عادات تعاطي الكوكايين شائعة.
بعد وفاة ميتشل تم ترفيع ربيبه، أنشو جاين، وهو رائد ذكي جدا في تداول المشتقات، ليتولى إدارة قسم الأسواق، ثم المصرف الاستثماري، وفي نهاية المطاف، كامل دويتشه. ولد هذا المصرفي في بيئة الديانة الجانينية القديمة (التي تعود أصولها إلى الهند) - وهو نباتي ورجل أسرة رفيع الذوق - يبدو وكأنه متناقض بشدة مع رئيسه السابق. ما يوحدهما كان الإعجاب الشديد بتعقيدات التمويل واحترام بالغ للمال الذي سمح للمصارف والمصرفيين بكسبه.
في ذروته، كان جاين من بين المصرفيين الذين يتقاضون أفضل الأجور في العالم. وفقا لزملاء له، كان يكسب ما يصل إلى 30 مليون دولار سنويا. وفي الوقت الذي كان فيه دويتشه يسعى لاجتذاب الموظفين من المصارف المنافسة، أصبح المصرف معروفا بصفقات أجوره السخية. كان كبار المتداولين يكسبون في العادة من 10 ـ 20 مليون دولار.
كثيرون من الذين انضموا إلى دويتشه بانك في الثمانينيات والتسعينيات وأوائل القرن الحالي يتحدثون عنه باعتباره مكانا "ملهما" للعمل. كان يتم تشجيع الإبداع، وتكافأ النتائج - والشهية للمخاطرة - وبدا الطموح لا حدود له. لكن كان هناك جانب سلبي. يقول أحد كبار التنفيذيين السابقين: "دويتشه كان يعيّن دائما مرتزقة في المصرف الاستثماري. لم يهتموا بالأخلاق. تم تشجيع المنافسة الداخلية لأعمال العميل نفسه على أساس: لنجعل أفضل رجل يفوز، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى ديناميات سامة". يقول أحد التنفيذيين السابقين: "كان ذلك بمثابة خليط متنافر من الثقافات".
وراء ذلك كان يكمن النمو السريع للمصرف، والاستحواذ على شركتين للوساطة تلطخت سمعتهما بفضيحة أخلاقية، واستيراد جماعي لفرق من المصرفيين من مختلف المصارف المنافسة. الرؤساء في فرانكفورت عميت عيونهم بسبب نجاح الوحدة إلى درجة أنهم لم يستثمروا في غيرها شيئا يذكر. لكنهم فشلوا أيضا في السيطرة عليها من خلال جهاز امتثال فاعل أو نظم معلومات متجاوبة. وكانت النتيجة نجاحا كبيرا في سنوات الطفرة ومشاكل عميقة منذ ذلك الحين. وهذا أعطى الرئيس التنفيذي الحالي مهمة ضخمة لتحسين الأحوال في الشركة.
جون كريان هو، على التوالي، ثالث مصرفي استثماري غير ألماني يحتل المنصب الأعلى في المصرف. هذا الشخص المولود في شمال إنجلترا والذي يستطيع توجيه الانتقاد على شكل نكتة مضحكة، تولى منصبه في تموز (يوليو) 2015، وهو مختلف عن سابقيه اختلافا تاما. فهو يتحدث بلغة بسيطة، ومثقف (مولع بالموسيقى الكلاسيكية) ومطلع فنيا على البرمجة (ويتحدث بعلم عن برنامج الكمبيوتر في دويتشه، ويقول أحد أصدقائه إنه ذات مرة ساعد شركة البناء في تركيب وصلات الكهرباء في منزله في لندن).

ثقافة العلاوات
في الماضي كان دويتشه بانك رمزا للرهانات الكبيرة على الأسواق والعلاوات الكبيرة التي تتناسب مع ذلك. لكن كريان جرد الأقسام ذات المخاطر العالية إلى هياكلها الأساسية، وألغى العلاوات. وقال بعد تعيينه بفترة قصيرة: "ليست لدي فكرة لماذا عُرِض علي عقدٌ يشتمل على علاوة بداخله، لأني أعدكم أنني لن أعمل بزيادة في الجد أو بنقص في الجد في أي عام، وفي أي يوم، لمجرد أن هناك من سيدفع لي مبلغا أعلى أو أقل".
في السنة الماضية اتخذ المصرف القرار غير المسبوق بإلغاء جميع العلاوات عمليا بسبب النتائج الرديئة. (كانت هناك "علاوات لتشجيع الموظفين على البقاء"، صرفت لـ 5522 موظفا من "ذوي الوظائف الحساسة"). يقول أحد أعضاء مجلس الإدارة: "ربما كان هذا على الأرجح واحدا من أصعب القرارات التي اتخذناها".
ثقافة العلاوات السابقة في المصرف لم تكن فريدة بين المصارف الأخرى. لكن عدم الانسجام بينها وبين الأداء كان حادا. خلال الفترة من 1995 إلى 2016، حصل المساهمون على مبلغ صاف مقداره 17 مليار يورو من امتلاك أسهم المصرف، بعد التعويض عن توزيعات الأرباح، وإعادة شراء الأسهم، وازدياد قيمة المصرف في سوق الأسهم، من خلال زيادات رأس المال. هذا الرقم يتضاءل أمام رقم 71 مليار يورو الذي دُفِع على شكل علاوات خلال الفترة نفسها. أحد كبار المصرفيين الاستثماريين الذي كان يعمل لدى دويتشه في فترة الصعود في منتصف التسعينيات، حين عُرِض عليه هذا الرقم، كان يبدو عليه تواضع غير معهود. سأل وهو يلقي نظرة تدل على عدم الفهم أو الاهتمام: "هل سيكون المصرف أفضل حالا لو أنه لم يوظف أيا منا؟".
بالنسبة لبعض الموظفين، لغة كريان الطنانة التي تدل على التقشف تبدو جوفاء – ذلك أن زوجته واحدة من أفراد عائلة دوبونت صاحبة المليارات. لكن لا مجال للتشكيك في نزاهته الأساسية. يتذكر زملاؤه السابقون أنه خلال عمله مستشارا لدى مصرف "إيه بي إن أمرو" في عام 2007، فإن كريان الذي كان في ذلك الحين الشخص المختص في مجال الصفقات لدى مصرف "يو بي إس"، أخبر بشكل غير رسمي رويال بانك أوف اسكتلاند RBS، الذي انتهى به الأمر إلى الاستحواذ على "إيه بي إن"، إنه يجدر به التفكير مليا قبل مواصلة عملية الاستحواذ البالغة 72 مليار يورو. تلك صفقة انتهى بها المطاف إلى تدمير RBS الذي تمتلك الدولة الآن قسما كبيرا منه. يقول عنه أحد الأصدقاء وزميل سابق: "إنه إنسان مستقيم تماما. ومن المؤكد أنه لا يخاف من أن يطلب من شخص ما التخلي عن خطة حتى لو كان ذلك يعني أنه سيخسر عملا معينا".
محاولات كريان للإصلاح كانت في بعض الأحيان تصل إلى حد التظاهر بالتقوى والصلاح. رفضه الاجتماع بالمساهم الأكبر الجديد في دويتشه – التكتل الصيني "إتش إن إيه" المثير للجدل – تسبب في بعض الاحتكاك مع بول آشلايتنر، رئيس المجلس الإشرافي للمصرف. لكن آشلايتنر الذي أخرج جين من أجل تمهيد الطريق أمام كريان، لم يشعر بالانزعاج. يقول رئيس مجلس الإدارة: "يتمتع جون بالموهبة العقلية، والإحساس بالفكاهة الممزوجة بالانتقاد، والقدرة على تسمية الأشياء بأسمائها. هذا أمر صحي للغاية. لقد جعل الناس يعيشون في أرض الواقع بدلا من الكلام المبالغ فيه والذي زاد عن حده. هل سيقل تحفيز المصرفيين نتيجة لذلك؟ هم بحاجة إلى الاستيقاظ وشم رائحة القهوة. إنه شخص أصيل وهذه ميزة ضخمة في عالم اليوم".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES