ثقافة وفنون

«المجّانية» .. مستقبل الاقتصاد أم خديعته؟

«المجّانية» .. مستقبل الاقتصاد أم خديعته؟

«المجّانية» .. مستقبل الاقتصاد أم خديعته؟

في عصر مشاركة الأشياء وتقديم الخدمات المجانية، على حساب التملك والاقتناء، يثار اليوم عديد من الأسئلة الوجودية حول مستقبل الاقتصاد وكيفية الربح في اقتصاد "صفري" تحمل الإنترنت وثورة الاتصال، التي تقودها شركات التكنولوجيا الكبيرة، لواءه الثقافي والمعرفي. وفيما يلي محاولة لقراءة الواقع من زاوية مستقبلية للباحث حمودة إسماعيلي. يستهلها بافتراض أنك ترغب في مشاهدة فيلم.
في التسعينيات ستقوم - وهو الحل الوحيد والأرخص ثمنا - باقتناء شريط فيديو، حاليا تستطيع الجلوس بالقرب من مقهى ومشاهدة الفيلم بالمجان عبر تقنية ال Wi-Fi. مضمون الفكرة هو الاستفادة من خدمة مجانية، وهو الأمر الذي لم يسبق حدوثه في تاريخ الاقتصاد؛ وهو أيضا ما يميز اقتصاد القرن 21 عن اقتصاد القرن 20. حيث الخدمات المجانية لاقتصاد التكنولوجيا والشبكات الافتراضية تكتسح اقتصاد الصناعات الثقيلة.
لو أنك اليوم تفكر في مشروع حول وضع تطبيق للتعارف مقابل دفع العملاء 1 دولار لتسجيل حساب، فهذا يعني إما أن لديك مشكلة في دماغك أو أنك نصاب! لأنه كيف يعقل أن تستثمر في خدمة بالدفع هي في الأصل مجانية ولن تصل بمستواها إلى خدمات شركات كبرى كـ "فيسبوك" و"إنستاجرام" و"سنابشات" بخدماتها المجانية؟ وما يميز اقتصاد الخدمات المجانية أن أرباحه تفوق أرباح اقتصاد الصناعات الثقيلة!
سابقا كان التنافس حول جودة السلع، ومع نمو السوق الآسيوية صار التنافس حول تخفيض ثمن المنتجات، اليوم هناك تنافس حول الخدمات المجانية. هو بالطبع لن يصير كل شيء مجانيا بين ليلة وضحاها، لكن باكتساح اقتصاد التكنولوجيا والإنترنيت لعديد من القطاعات، فقد يسمها بطابع المجانية - أو الاقتراب من قيمة 0.
نأتي إلى افتراض يقربنا أكثر، لو أنك ترغب في الغناء، في التسعينيات فسيتوجب عليك إنتاج شريط وبيعه، الآن لا! ليست هناك طريقة أسهل من عرض أغانيك بالمجان على موقع YouTube. لكن كيف يمكن در أرباح في ظل المجانية؟ الربح في اقتصاد المجانية لم يعد واضحا كطريقة البيع والشراء، فطالما أن عملة اقتصاد المجانية غير واضحة بعد، فإن الأرباح تتم بشكل جانبي من خلال الدعاية. ففي مثال الغناء، فالمغني الذي اتبع معيار المجانية يمكن أن يقيم حفلات بأرباح مضاعفة مقارنة بمغن لا يعتمد معايير الاقتصاد الجديد في الإنتاج "لأن مغني YouTube حقق شعبية واسعة من خلال خدماته المجانية". بالنسبة إلى من يروجون فكرة الربح عبر الإنترنيت، هم أنفسهم لا يربحون شيئا! هل تعتقد أنهم لو كانوا قادرين على جمع ثروات عبر الإنترنت سيكشفون لك الطريقة؟! كل ما هنالك أنه يتم نشر مواضيع من المنتديات بالعربية أو مترجمة مثلما كان يفعل مروجو البرمجة اللغوية العصبية وتطوير الذات مع اقتصاد القرن 20 بفكرة تأسيس ثروة بدون رأسمال! بماذا بالتنويم المغناطيسي؟! الأمر كله دعاية لأنفسهم للقيام بدورات ربحية! فالدعاية هي المسألة الواضحة هنا، وبالعودة إلى المغني فإن وضعه الأغاني بالمجان "ليس لأجل أعين معجبيه" بل لأن المجانية هي المعيار الذي أخذ الأولوية اليوم في عالم النجاح والأرباح.
لأول مرة في مجال العروض الترفيهية يشهد هذا القطاع مجانية في تقديم العروض، فقديما يجب أن تدفع نقدا للفنان حتى يعرض موهبته - سواء في الغناء أو أي مجال - اليوم بتنا نرى عروض المواهب التي تقدم إنتاجاتها بالمجان، مقابل الأرباح التي ستأتيها فيما بعد مع تزايد الشهرة. وليس الأمر تسويقا، لأن الخدمات المجانية لها تسويقها الخاص، مثلا يتم التسويق لمسلسل سيبث بالمجان على الإنترنت؛ أو ينشر المغني مقطعا دعائيا لأغنية سيضعها في قناته بعد أسبوع بالمجان.
هنالك أمثلة عديدة حول معيار المجانية الذي لا نلاحظه بحكم الاعتياد وسرعة اكتساح الاقتصاد الجديد للقطاعات. في المقاهي يتم تقديم خدمات بث المقابلات الكروية "التي يدفع ثمن بثها صاحب المقهى" إضافة إلى خدمة Wi-Fi، دون تغيير ثمن المشروب، وفي المقابل أرباح خلال زمن بث المباريات مضاعفة مقارنة بسائر الأيام العادية "وخدمة بث المباريات تسير هي كذلك نحو المجانية اليوم عبر الإنترنت والقنوات الرياضية الجديدة". الجرائد صارت تقدم أخبارا فورية بالمجان في مواقعها، بدل بيع أخبار الأمس بنصف دولار، وفي المقابل زيادة شعبيتها ومتابعيها، الأمر الذي يدر عليها أرباحا عبر دعايات الويب.
اقتصاد القرن 21 يغير عديدا من جوانب اقتصاد القرن 20 الذي تنقلب معاييره باكتساح معيار المجانية للقطاعات، حيث الشركات تتنافس حول تقديم الخدمات المجانية. وبتزايد قوة التكنولوجيا التي تسهم في تخفيض تكلفة الإنتاج، يشير المهتمون الاقتصاديون إلى عدم الاستغراب من انهيار أثمنة المنتجات في المستقبل. زيادة على أن الأجيال الحالية مندمجة مع الاقتصاد الجديد "تشك في الخدمات غير المجانية في الويب" عكس ذلك مع الاقتصاد القديم الذي تواجه فيه صعوبات، كالبطالة والدخل غير الكافي والديون.
قارن ثمن مكالمة هاتفية قديما مع مكالمات الفيديو اليوم التي يقرب ثمنها من 0. وقبل فترة حاولت شركة اتصالات مغربية جعل خدمة "واتساب" مدفوعة وفشلت! هذا يكشف لنا كيف تسعى عقلية اقتصاد القرن العشرين للوقوف أمام اقتصاد القرن الحادي والعشرين الذي تفشل في مجابهة قوته التكنولوجية وخدماته المجانية. الصحفي كريس أنديرسون Chris Anderson يطلق على اقتصاد المستقبل اسم "بزنس 0 دولار"، وله حوارات وفيديوهات وكتب حول الموضوع أشهرها كتاب "بالمجان Free".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون