FINANCIAL TIMES

الأرقام في العصر الرقمي لا تعطي صورة صحيحة

الأرقام في العصر الرقمي لا تعطي صورة صحيحة

في الأسبوع الماضي، أجرى تيري لوندغرين، رئيس مجلس إدارة مؤسسة ميسي للتجزئة، مقابلة مع ويلبر روس، وزير التجارة الأمريكي، في مناسبة عقدت في النادي الاقتصادي بنيويورك. كان هناك كثير من الحديث عن الاقتصاد، والتخفيضات الضريبية ودونالد ترمب. لكن، من وجهة نظري، اللحظة الأكثر إثارة للاهتمام كانت حين سأل لوندغرين روس عن التعداد السكاني الأمريكي، الذي تجريه وزارة التجارة كل عشر سنوات.
التعداد التالي في عام 2020، وسيكون لحظة رمزية بالنسبة إلى روس: وظيفته الأولى كانت موظفا متواضعا في التعداد. وهو يعلم أنه في ظل المناخ الحالي، فإن المسح سيجذب قدرا كبيرا من التدقيق. وسيشكل تحديات كبيرة - من إقناع بعض المجتمعات المحلية بالثقة بالحكومة وإعطاء المعلومات المطلوبة في الاستبانة بدقة، إلى التهديدات الأمنية الإلكترونية التي تشكلها العملية (سيكون تعداد 2020 الأول في الولايات المتحدة الذي يقبل الردود على الإنترنت). قال روس: "يتعين علينا تدريب نصف مليون شخص لذلك".
كان لوندغرين أكثر قلقا بخصوص قضية أخرى: هل يمكن الوثوق بالأرقام؟ أو، في الواقع، هل يمكننا أن نثق بأية بيانات اقتصادية في هذه الأيام؟ في القطاع الخاص، من السهل حساب عدد الفساتين التي تباع في منافذ "ميسي"، أو عدد الموظفين الذين يحضرون إلى وردياتهم - لكن نسبة مبيعات التجزئة التي تحدث في المتاجر الفعلية على الأرض تتقلص بسرعة. ومع انتقال الشركات نحو الإنترنت، يشعر الرؤساء التنفيذيون، مثل لوندغرين، بالقلق من أن موظفي الإحصاء الحكوميين قد لا يكونون قادرين على تتبع النشاط في الفضاء الإلكتروني بدقة كما هي الحال في العالم الحقيقي. سأل روس، الذي يبدو متشككا في ذلك بشكل مدهش: "هل (تقيسون) ذلك حقا؟".
هذا سؤال مهم. لاحظ أن النظم المستخدمة في قياس اقتصادنا - من الناتج المحلي الإجمالي إلى الإنتاجية - جيدة في عد المواد الملموسة لكنها أقل فاعلية في إعطاء أرقام كمية بخصوص قيمة الخدمات. وعندما يتعلق الأمر بالفضاء الإلكتروني تتضاعف المشاكل. فالتغير التكنولوجي، مثلا، غير مفهومنا للناتج: فإذا تضاعفت قوة الهاتف الذكي أو نظام تكنولوجيا المعلومات في شركة ما، لكن بقي السعر على حاله، هل ينبغي تسجيل هذا "التحسن" ضمن بيانات الناتج المحلي الإجمالي، أو بيانات الاستثمار، أو الإنتاجية؟
وهناك مشكلة أخرى أكثر تعقيدا: كثير من التعاملات في القرن 21 تجري دون أي تبادل نقدي. مثلا، بالتطبيقات "المجانية" على الهاتف الذكي. هذه التطبيقات ليست حقا مجانية على اعتبار أنك تحصل عليها مقابل تقديم بياناتك الشخصية، أو السماح لنفسك أن تكون مستهدفا من قبل مختلف الإعلانات. ما يجري هو عملية مقايضة، وليس بيعا نقديا.
ومع ذلك، مشكلة المقايضة تتمثل في أن الاقتصاديين يغلب عليهم أن يفترضوا أنها موضة قديمة تماما بشكل ميؤوس منه بحيث يمكن تجاهلها في الإحصاءات الحديثة. وبشكل أكثر تحديدا، ولأن الإحصاءات تقيس الأنشطة فقط من حيث قيمتها النقدية، يتم حذف المقايضة بشكل افتراضي.
علماء الأنثروبولوجيا الاقتصادية لديهم وجهة نظر مختلفة. يجادلون بأن المال هو بناء اجتماعي، وأنه لا يشكل سوى نوع واحد فقط من عدة أنواع للتبادل تجعل المجتمعات تتماسك معا وتوجد "القيمة". في الواقع، كما لاحظ ديفيد جرايبر، الأستاذ في كلية الاقتصاد في لندن، الائتمان الاجتماعي، والمقايضة، والمال كانت تتعايش معا في المجتمعات المختلفة على مر التاريخ. والعالم الرقمي اليوم ليس استثناء من ذلك: مقايضة البيانات مقابل الحصول على خدمات هي أساس الفضاء الإلكتروني - حتى لو كان ذلك يوجد ثغرات من خلال عدم الظهور في حسابات الناتج المحلي الإجمالي.
مدى أهمية هذه الثغرات هو موضع أخذ ورد. يصر بعض الاقتصاديين على أننا نخطئ في التشكيك في الإحصاءات، لأن بيانات اليوم ليست أقل دقة مما كانت عليه في الماضي. يجب ألا ننسى أن التغير التكنولوجي هو سمة ثابتة في القرنين الماضيين – كانت الأنشطة تجري دائما خارج "السوق" وغالبا ما كان يتم تجاهلها في الإحصاءات الرسمية؛ لنفكر فقط في رعاية الأطفال.
يعتقد خبراء اقتصاديون آخرون أن سرعة التغير التكنولوجي تطرح مشاكل خاصة. في الشهر الماضي حضرت مؤتمرا اقتصاديا في آسبن. وصل مارتن فلدشتاين، وهو أستاذ في جامعة هارفارد، وهو يحمل معه أبحاثا أكاديمية تجادل بأن الفشل في تتبع النشاط الرقمي بدقة كان يشوه البيانات بطرق مهمة. أبرزها أن البيانات الرسمية المتعلقة بالإنتاجية كانت منخفضة بصورة غريبة ولافتة للنظر في الآونة الأخيرة. ربما يشير ذلك إلى أن الاقتصاد ضعيف، لكن من رأي فلدشتاين أن ذلك يظهر ببساطة أن الإحصائيين يفوتون نشاطات رئيسية في أرقامهم.
خلال عشاء في الصيف الماضي استمعت إلى حوار ساخن بين أحد محافظي البنك المركزي ومجموعة من الرؤساء التنفيذيين في وادي السليكون حول إحصاءات الإنتاجية التي من هذا القبيل. اعترف المسؤول في البنك المركزي بأنه يشعر بالقلق إزاء البيانات ويخشى أنها تشير إلى أن الاقتصاد يخفق في تحقيق النتائج المرجوة، إلا أن الرؤساء التنفيذيين في شركات التكنولوجيا أصروا على أن الإحصائيين يفشلون في قياس النمو الهائل في قطاعهم (التكنولوجيا). يقول الرئيس التنفيذي لإحدى شركات التكنولوجيا: "النشاط الرقمي لا يتم حسابه بشكل صحيح. لا أؤمن بأرقام (الناتج المحلي الإجمالي)".
لا توجد طريقة لمعرفة أي المنظورين هو الصحيح - ما لم تبدأ بيانات الإنتاجية في التصرف بطرق أكثر منطقية. لكن في المرة المقبلة التي تتسوق فيها لشراء الملابس - أو تستخدم تطبيقا مجانيا - يجدر بك التفكير في سؤال لوندغرين، وما إذا كان سيكون لدى وزارة التجارة الأمريكية في نهاية المطاف أية إجابة. حجم الاقتصاد، مثل قياس أحد الفساتين، يعتمد إلى حد ما على عين الناظر.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES