FINANCIAL TIMES

اليابان بحاجة للتخلص من هاجس الجودة

اليابان بحاجة للتخلص من هاجس الجودة

جواز سفري يشتمل على أختام من هنا وهناك بألوان مختلفة وبزوايا مختلفة دون ترتيب. هناك صفحة واحدة فقط مرتبة بشكل رصين، وعليها ختم الجوازات مرتب بحيث يوازي حافة الصفحة، وهو المكان الذي وضعه فيه مفتش الجوازات الياباني.
الكمال في كل مكان في طوكيو، ابتداء من الركاب الهادئين الذين يصطفون بشكل منضبط أثناء الصعود على مترو الأنفاق، إلى الأشجار المهذبة بشكل مثالي في حدائق القصر الإمبراطوري. إعادة انتخاب شينزو آبي الأسبوع الماضي رئيسا للوزراء تمنحه تفويضا لتغيير الدستور، لكنها تمثل أيضا صوتا من جانب المجتمع المحافظ في اليابان لمصلحة الاستمرارية السياسية والنظام.
فضائح البيانات المزورة في "كوبي ستيل" وغيرها من الشركات تشكل خرقا عميقا لهذا النظام. سيفشل النظام إذا كان لا يمكن الوثوق بالصناعة اليابانية، المشهورة منذ النهضة شهدتها اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، ليس فقط بالجودة العالية، ولكن أيضا بحملة لا تعرف الكلل من أجل الكمال في المنتجات.
يمكن استعادة هذه الثقة إذا قامت الشركات اليابانية الرائدة بفرض ضوابط أكثر تشددا على عملياتها. يمكن لـ "كوبي ستيل" أن توقف التصديق المزور على جودة المعادن، ما اضطر شركات مثل فورد وبوينج للتحقق من أن منتجاتها آمنة. ويمكن لشركة نيسان التوقف عن توظيف موظفين غير مؤهلين لإصدار الموافقة على السيارات.
لكن اليابان بحاجة إلى الاعتراف بهذه الحوادث على أنها أن أعراض نظام اقتصادي مغلق بشكل صارم يصل إلى حدوده القصوى. وبدلا من مجرد إيجاد طرق لفرض النظام، يجب على البلد أن يتعلم العيش مع عدم الكمال.
يعود هاجس الجودة لدى اليابان إلى جهودها في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية لتوسيع الصادرات من خلال التخلص من السمعة التي كانت تصم المنتجات اليابانية بأنها ذات حرفية رديئة. وكان عراب هذه الجهود هو إدواردز ديمينج، المهندس الأمريكي والإحصائي الذي طلب من الشركات في عام 1950 أن تسعى إلى "الكمال في عملية التصنيع، وذلك باستخدام المهارات التقنية لعمال المصنع وآلاته".
بلغ هذا الأمر ذروته في نظام إنتاج تويوتا الذي وضعه تايشي أوهنو، الذي أحدث ثورة في خطوط التجميع من خلال منح العمال الاستقلال الذاتي والاعتماد عليهم لإيقاف العملية إذا رصدوا أية عيوب. بالتالي تم تشجيع ثقافة تقوم على تمكين العمال على نحو يؤدي إلى معايير عالية من الجودة، من خلال التوظيف مدى الحياة، وهي معايير لا تزال تغطي الكثير من القوة العاملة في اليابان.
هذا أدى إلى نتائج استثنائية جعلت الشركات اليابانية تتفوق على شركات صناعة السيارات الأمريكية في الثمانينيات والتسعينيات. لكن التوظيف مدى الحياة والتركيز أحادي التفكير على جودة المنتجات كان يشتمل أيضا على نقاط ضعف. فقد أدى، مثلا، إلى إنتاج شركات صناعة الهواتف أجهزة متقدمة للغاية، لكنها تفشل في التنافس بفعالية مع شركة أبل في مجال البرمجيات والخدمات.
فشل "كوبي ستيل" يكشف عن مشكلة أعمق: النظام لم يعمل بحسب أحكامه الخاصة. فبدلا من تمكين العمال ومشاركتهم، كان هناك تستر وصمت. يظل التوظيف مدى الحياة سلعة مجتمعية - حتى الناخبون الأصغر سنا في الانتخابات قالوا إنهم يقدرون الأمن الوظيفي بشكل كبير - لكنه لم يحقق الفوائد الصناعية المرجوة.
ربما يظهر هذا أن "كوبي ستيل" كانت تضع معايير عالية بلا جدوى. لم يؤمن ديمينج بالكمال من أجل الكمال نفسه. نصيحته في عام 1950 كانت كما يلي: "إذا كانت جودة المنتج مرتفعة فوق الحد أو منخفضة جدا، فإنه لا يصلح". وأعلن عدد من العملاء الصناعيين لدى "كوبي" أن القطع التي اشتروها كانت جيدة بما فيه الكفاية، على الرغم من أنها كانت أقل من المستهدف.
هذا يبين بوضوح التهاون المؤسسي، وهو عامل في فضائح الشركات بما فيها "توشيبا" وشركة تاكاتا المختصة في صناعة الوسائد الهوائية في السيارات. هذه الشركات خدعت نفسها وخدعت الآخرين: تركيزها على جودة المنتج عمل على صرف النظر عن حالات الخداع والإدارة المتراخية.
مثل هذا التهاون ليس مفاجئا. في مجتمع يتسم بالشيخوخة، مع التوظيف مدى الحياة، يعمل التنفيذيون في الشركات اليابانية العادية مع بعضهم بعضا لفترة طويلة. وغالبا ما تكون مجالس الإدارة ضعيفة وبعضها محمي من الضغوط الخارجية، من خلال وجودها ضمن تكتلات.
الاقتصاد الياباني أيضا ضيق الأفق، ويعتمد على الصادرات أقل من اعتماد بلدان مثل فرنسا وألمانيا. وعلى الرغم من أن آبي أنعش النمو الاقتصادي والبطالة منخفضة، إلا أن الاقتصاد يعاني "تأثير جالاباجوس"، الذي سمي على اسم الأرخبيل الذي يشتمل على نظام بيئي متنوع، لكنه معزول (الأرخبيل الذي زاره داروين). كثير من الشركات لم تحاول الذهاب إلى الخارج.
يذكرنا هذا بمحنة شركات صناعة السيارات الأمريكية قبل الهجمة اليابانية. لكن الفرق هذه المرة هو أن الشركات الأمريكية كانت تعمل على تجميع مركبات ذات جودة منخفضة، في حين أن اليابان مذنبة بنزعة الكمال. لكن الحل مشابه في الحالين: لا بد من الخروج إلى العالم والتعلم.
يقدم المجتمع الياباني حافزا آخر للاستكشاف: انخفض عدد السكان الأصليين بواقع 308 آلاف نسمة في العام الماضي، ويجري اجتذاب النساء والرجال الأكبر سنا مرة أخرى إلى القوة العاملة. والسوق المحلية تتعرض للانكماش بصرف النظر عن الكميات التي تنتجها الشركات.
عمليات الاستحواذ من قبل الشركات اليابانية، بما في ذلك استحواذ شركة سوفت بانك على "أرم هولدينجز" مقابل 24.3 مليار جنيه استرليني، تظهر التغير في المزاج. الشركات لا تحتاج فقط إلى أسواق جديدة، بل أيضا إلى تعلم أساليب جديدة لتطوير المنتجات والخدمات.
أولئك الذين يلمعون خدوشا على المكونات لن يراها المستهلكون أبدا عليهم أن يتعلموا التراخى قليلا. أولئك الذين يسعون لأن يكونوا في وضع سليم في المرة الأولى يمكنهم الانطلاق بسرعة، والتحديث لاحقا. بالنسبة إلى مسافر ياباني، لا بد أن يبدو العالم فوضويا.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES