Author

معزوفة انفصالية شمال أوروبا وجنوبها

|
كاتب اقتصادي [email protected]

"الوطنية، عندما يأتي حبك لأبناء وطنك أولا. القومية، عندما تأتي كراهيتك لأبناء أوطان أخرى أولا"
شارل ديجول - رئيس فرنسي راحل

غطت أحداث الاستفتاء الذي أُجري في إقليم كتالونيا للانفصال عن المملكة الإسبانية، على أخبار وتطورات مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست". هذا الحدث الكتالوني يستحق توصيف "التاريخي"، على الرغم من أنه لم يكن الأول من نوعه. وهو كذلك، لأنه جمع أكبر عدد من الناخبين الذين صوتوا لمصلحة الانفصال، ناهيك طبعا عن أعمال العنف النادرة التي حدثت قبل الاستفتاء المذكور وبعده، إلى جانب بالطبع التحركات المضادة للانفصال، سواء من شريحة الكتالونيين الوحدويين، أو من الإسبان الوطنيين بشكل عام. "بريكست" تراجع عن الواجهة في الفترة المذكورة، لكنه سرعان ما ظهر مرة أخرى، ليس من جهة تحقيق تقدم في مفاوضات الخروج "فلا تقدم حدث حتى اليوم"، بل بسبب المعزوفة الانفصالية الاسكتلندية التي ارتفع صوتها مؤيدا استفتاء الكتالونيين الانفصاليين.
في أوروبا اليوم، رحى انفصال تطحن في شمالها، ورحى انفصال آخر في جنوبها. لكن هذه الأخيرة بلغت الحد الأقصى، لماذا؟ لأن الحكومة المركزية في مدريد ترى أنه لا يوجد خيار آخر لإيقاف موجة الانفصال إلا بإعادة كتالونيا تحت السلطة المركزية، ونزع الحكم الذاتي الذي تنعم به عنها. والحق أن العاصمة منحت كثيرا من الفرص لرئيس حكومة الإقليم كارلس بودجمون للتراجع عن الاستفتاء واعتباره شيئا لم يكن، لكن قومية الأخير حولته إلى كائن صامت، بعد صراخ وصخب، لا يرد لا بالسلب ولا بالإيجاب، أملا أن تحدث المعجزة، وتمضي خطوات الانفصال إلى الأمام. يحتاج بالفعل إلى معجزة لأسباب كثيرة. لعل في مقدمتها، أن الاستفتاء من ناحية دستورية غير شرعي، وهذه النقطة على وجه الخصوص، لم تستقطب جهة أوروبية واحدة مؤيدة للانفصال إلا اسكتلندا. وهذه الأخيرة لا تمنح دعما بقدر ما تطرح تشويشا جانبيا فقط.
تلاقت مصالح الانفصاليين في الإقليمين الإسباني والبريطاني في فترة زمنية حساسة بالفعل، لكنهم في النهاية لا يملكون الأدوات اللازمة للتقدم في هذا الاتجاه. وإذا كانت هناك إمكانية مستقبلية لاسكتلندا بالانفصال عن المملكة المتحدة "ربما مع نهاية العقد الحالي"، غير أن الأمر مختلف تماما في الحالة الكتالونية. فالإقليم الإسباني لا يمكنه العيش معزولا حتى لو حدثت المعجزة وتم الانفصال، وهو ممنوع مسبقا من دخول الاتحاد الأوروبي، والسبب أن أي عضو جديد في هذا الاتحاد يحتاج إلى إجماع الدول المنضوية تحت لوائه. وهذا يعني أن لإسبانيا حق الفيتو. دون أن ننسى، أنه ليس جارا لدولة أوروبية صغيرة لا نفوذ لها، بل يشترك مع فرنسا بحدود طويلة، كتب فيها تاريخ محوري مس القارة كلها. بل شهد هذا الشريط الحدودي، ولادة أدب غربي رفيع يُدرس في مدارس ومعاهد هذه القارة.
في الحالة الاسكتلندية الأمر مختلف. فبريطانيا ستكون خارج الاتحاد الأوروبي في غضون عام ونصف العام، وبالتالي لن يكون لها صوت في مسألة انضمام اسكتلندا للاتحاد الأوروبي من عدمه، إذا ما تمكن الانفصاليون الاسكتلنديون من تحقيق حلمهم. بل المرجح أن تلقى ترحيبا من الاتحاد، لو استطاعت المفوضية منع فيتو انتقامي إسباني، كترهيب للكتالونيين. غير أن هذا الفيتو ليس مطروحا، لاعتبارات عديدة، منها أن إسبانيا المركزية لن تدخل في معارك أوروبية من هذه الزاوية، وهي لا تستطيع في الواقع مواجهة من هذا النوع، بينما لا تزال تتلقى الدعم الاقتصادي من الاتحاد، وهو الدعم الذي بدأ "كما هو معروف" ضمن خطة إنقاذ موازية بعض الشيء للخطة الخاصة باليونان. يضاف إلى ذلك، أن مدريد لن تنسى وقوف الاتحاد لجانبها في الأزمة الكتالونية.
الاتحاد الأوروبي أعلن صراحة وبقوة أنه يقف مع الحكومة المركزية الإسبانية، لا يهم امتعاض الانفصاليين الكتالونيين. فالاتحاد يستند إلى مبرر قانوني ودستوري لا يترك مجالا لانتقاده، وبذلك أراح نفسه من مسألة عويصة وخطيرة، هي في الواقع آخر ما يأمل أن تحدث. والمسألة الكتالونية رغم محليتها، إلا أن روابطها الأوروبية متشعبة. الأمر ليس بهذه الصورة في المسألة الاسكتلندية، خصوصا عندما لا يكون الصوت البريطاني حاضرا في قلب صنع القرار الأوروبي. وكأن الأوروبيين يقولون للاسكتلنديين، إذا استطعتم الانفصال وفق المبادئ الديمقراطية، تعالوا إلينا أهلا وسهلا. غير أن هذا كله، لا يجعل الاتحاد الأوروبي مرتاحا. فأكثر ما يؤرق كتلة كبرى كهذه دعوات الانفصال في هذا البلد أو ذاك، لاسيما عندما تظهر تلك القوميات المخيفة.
يعتمل في أوروبا اليوم الانفصال في شمالها وجنوبها، دون أن نشير بالطبع إلى الأزمة الكامنة المهيأة للانفجار في أي لحظة من جهة إيرلندا الشمالية. وهذه الأخيرة وحدها مشكلة مرتبطة بـ"البريكست" نفسه مباشرة بفعل الروابط بين إيرلندا العضو الكامل في الاتحاد والإقليم الشمالي الذي يقبع تحت التاج البريطاني. وفي كل الأحوال، لا يبدو هناك أمل للكتالونيين في انفصال من جانب واحد. قد يحصلون على بعض الامتيازات المحلية، لكن لا انفصال.. لا انفصال.

إنشرها